الكوثر_مناسبات
روى عبد الله بن الحسن (عليه السلام) بإسناده عن آبائه (عليهم السلام): (أنه لما أجمع[1] أبو بكر على منع فاطمة (عليها السلام) فدكاً، وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها[2]، واشتملت بجلبابه[3]، وأقبلت في لمة[4] من حفدتها[5] ونساء قومها، تطأ ذيولها[6]، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)[7]، حتى دخلت على أبي بكر - وهو في حشد[8] من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة[9]، فجلست، ثم أنّت أنّه أجهش القوم[10] لها بالبكاء.
فارتج المجلس[11] ثم أمهلت هنية[12] حتى إذا سكن نشيج القوم[13]، وهدأت فورتهم[14]، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها، فقالت (عليها السلام):
الْحَمْدُ للّهِ عَلى ما أنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ على ما ألْهَمَ، وَالثّناءُ بِما قَدَّم، مِنْ عُمُومِ نِعَمٍ ابْتَدَأها، وسُبُوغ آلاءٍ أسْداها[15]، وَتَمامِ مِنَنٍ أوْلاها[16]؛ جَمَّ عَنِ الإحْصاءِ عَدَدُها[17]؛ وَنَأى عَنِ الجَزاءِ أمَدها؛ وَتَفاوَتَ عَنِ الإدارك أبَدُها، وَاسْتَدْعَى الشُّكْرَ بِإفْضالِها، وَاسْتَحْمَدَ إلىَ الْخلائِقِ بِإجْزالِها، وثَنّى بِالنّدبِ إلى أمثَالِه.
وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا الله وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ كَلمَةً جَعَلَ الإْخلاصَ تَأْويلَها، وَضَمَّنَ الْقُلوُبَ مَوْصُولَها؛ وأنارَ في التَّفَكُّرِ مَعْقُولَها، الْمُمْتَنعُ عَنِ الأبْصارِ رُؤيَتُهُ، وَمِنَ الأْلسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأوْهامِ كَيْفِيَّتُهُ، ابْتَدَعَ اْلأشياء لا مِنْ شَيْءٍ كانَ قَبْلهَا، وَأنْشَأها بِلا احْتِذاءِ أمْثِلةً امْتَثَلَها[18]، كَوّنَها بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأها بِمَشِيئتِهِ، مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ مِنْهُ إلى تَكْوِينِها، وَلا فائِدةٍ لَهُ فِي تَصْوِيرِها، إلّا تثْبِيتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبِيهاً عَلى طاعَتِهِ، وَإظْهاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَريَّتِهِ، وَإعزازاً لِدَعْوَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ الثّوابَ عَلى طاعَتِهِ، وَوَضَعَ العِقابَ عَلى مَعْصِيَتِهِ ذِيادَةً لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمتِهِ، وحياشةً لَهُمْ إلى جَنَّتِهِ[19]، وَأشْهَدُ أنَّ أبي مُحَمّداً (صلى الله عليه وآله) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أنْ أرْسَلَهُ، وَسَمّاهُ قَبَلَ أنِ اجْتَباهُ، وَاصطَفاهُ قَبْلَ أنِ ابْتَعَثَهُ إذِ الْخلائِقُ بِالغَيْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسِتْرِ الأهاوِيلِ مَصُونَةٌ، وَبِنهايَةِ الْقِدَمِ مَقْرُوَنَةٌ، عِلْماً مِنَ الله بِمايِلِ الأُمُورِ، وَإحاطَةً بِحَوادِثِ الدُّهورِ، وَمعْرفةً بِمَواقع المَقْدُورِ، إبْتَعَثَهُ الله إتماماً لأمْرِهِ وَعَزيمَةً عَلى إمْضاءِ حُكْمِهِ، وَإنْقاذاً لِمَقادِيرِ حَتْمِهِ، فَرَأى(صلى الله عليه وآله) الأُمَمَ فِرَقاً فيِ أدْيانها، عُكَّفاً عَلى نِيرانِها، عابدَةً لأِوْثانها، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفانها، فَأنارَ اللهُ -تَعالى- بِأبِي مُحَمّدٍ ظُلَمَها، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَها[20]، وَجلّى عَنِ الأبْصارِ غَمَمَها[21]،وَقامَ في النّاسِ بِالهدايَةِ، وأنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوايَةِ، وَبَصّرَهُمْ مِنَ العَمايَةِ، وَهَداهُمْ إلى الدّينِ الْقَويِمِ، وَدَعاهُمْ إلىَ الصّراطِ الْمُسْتَقيم.
ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ اِلَيْهِ قَبْضَةَ رَأفَةٍ وَاختِيارٍ، وَرَغْبَةٍ وَايثارٍ، فَمُحَمّدٌ (صلى الله عليه وآله) عَنْ تَعَبِ هذِهِ الدُّنيا فيِ راحَةٍ، قَدْ حُفَّ بِالْملائِكَةِ اْلأبْرارِ وَرِضوانِ الرَّبَّ الْغَفّارِ وَمُجاوَرَةِ الْملِكِ الْجَبّارِ، صَلّى الله عَلى أبي: نَبِيّهِ وَأمِينِهِ عَلى وَحيْهِ، وَخِيَرَتِهِ مِنَ الْخَلْقِ وَرَضيّهِ، وَالسّلامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ.
وَأنْتُمْ -عِبادَ اللهِ- نُصْبُ أمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَحَمَلَةُ دِينهِ وَوَحيْهِ، وَأُمَناءُ اللهِ عَلى أنْفُسِكُمْ، وَبُلَغاؤُهُ إلىَ الأُمَم؛ وَبَقِيّةٌ اسْتَخْلَفَها عَلَيكُمْ: كِتابُ اللهِ النّاطِقُ، وَالْقُرْآنُ الصّادِقُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالضّياءُ اللاّمِعُ؛ بَيّنَةٌ بَصائرُه، مُنْكَشِفَةٌ سَرائِرُهُ، مُتَجَلّيةٌ ظَواهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ أشْياعُهُ، قائِدٌ إلى الرّضْوانِ اتّباعُهُ، مُؤَدٍّ إلى النّجاةِ اسْتِماعُهُ؛ فِيهِ تِبْيانُ حُجَجِ اللهِ المُنَوَّرةِ وَعَزائِمِهِ الْمُفسَّرةِ، وَمَحارِمِهِ الْمُحَذَّرةِ، وَبَيَنّاتِهِ الْجاليَةِ، وَجُمَلهِ الشّافِيَةِ؛ وَبَراهِيِنِهِ الْكافِيَة، وَفضائِلهِ المْنْدُوبَةِ، وَرُخَصِهِ الْمَوْهُوبَةِ، وَشَرائِعِهِ الْمكْتُوبَةِ، فَجَعَلَ اللهُ الاْيمانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشّرْكِ، وَالصّلاة تَنْزيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْرِ، وَالزّكاةَ تَزكِيَةً لِلنّفسِ وَنَماءً في الرّزْقِ، وَالصيّامَ تثْبيتاً للإخْلاص، وَالْحجَّ تَشْييداً لِلدّين، وَالْعدَلَ تَنْسيقاً لِلْقُلُوبِ، وَطاعَتَنا نِظاماً للْمِلّة؛ وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجهادَ عِزّاً لِلاْسْلام وَذُلاً لأهْلِ الكُفْرِ والنِّفاقِ، وَالصّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتيِجاب الاَجْرِ، وَالأمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنّهْيَ عَن الْمُنْكَرِ مَصلَحَةً للعامَةِ، وَبِرَّ الْوالدَيْنِ وِقايَةً مِنَ السُّخْطِ، وَصِلةَ الأرْحامِ مَنسَأةً[22] فيِ الْعُمْرِ وَمَنْماةً في الْعَدَدِ، وَالْقصاصَ حقْناً للدّماءِ، وَالوفاءَ بِالنّذْرِ تَعْريضاً للِمَغفِرَةِ، وَتَوْفيَةَ الْمكاييلِ وَالْمَوازينِ تَغْييراً للْبَخْسَةِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الخَمْرِ تَنْزيهاً عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنابَ الْقَذْفِ حِجاباً عَنِ اللَعْنَةِ، وَتَرْكَ السَّرِقَةِ إيجاباً لِلعِفَّةِ، وَحَرَّمَ اللهُ الشِّرْكَ إخلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبيَّةِ (فَاتَّقوُا الله حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنْتُمْ مُسْلمُونَ)، وَأَطِيعُوا اللهَ فِيما أَمَركُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَـ(إِنَّما يَخشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).
أَيُّها النّاسُ، اعْلَمُوا أَنِّي فاطِمَةُ وأَبي محَمّدٌ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءً، ولا أَقُولُ ما أَقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْعَلُ ما أَفْعَلُ شَطَطاً[23]، (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمؤْمِنيِنَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فَإنْ تَعْزُوهُ وَتَعْرِفُوهُ، تَجِدُوهُ أَبيِ دُونَ نِسائِكُمْ، وَأَخَا ابْنَ عَمِّي دُونَ رِجالِكُمْ، وَلَنِعْمَ الْمُعْزى إلَيْهِ، فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ، صادِعاً بِالنَّذارَةِ[24]، مائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكيِنَ[25]، ضارِباً ثَبَجَهُمْ[26]، آخِذاً بِكُظَمِهمْ[27]، داعِياً إلى سَبيِلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يُكَسِّرُ الأَصْنامَ وَيَنْكُتُ الْهامَ[28] حَتّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوا الدُّبرَ، وَحَتّى تَقَرَّى الّليْلُ عَنْ صُبْحِهِ[29]، وَأَسْفَرَ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدِّين، وَخرِسَتْ شَقاشِقُ الشَّياطِينِ[30]، وَطاحَ وَشِيظُ النِّفاقِ[31]، وَانْحَلَّتْ عُقْدَةُ الْكُفْرِ وَالشِّقاقِ، وفُهتُمْ بِكَلمَةِ الإخلاصِ فيِ نَفَرِ مِنَ البيِض الخِماصِ[32] وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّار[33]: مُذْقَةَ الشّارِبِ[34] وَنُهْزَةَ الطّامِعِ[35]، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ[36]، وَمَوْطِىءَ الأَقْدام، تَشْرَبُونَ الطَّرَقَ[37]، وَتَقْتاتُونَ القَدّ[38] أَذِلّةً خاسِئيِنَ، تَخافُونَ أنْ يتخطّفكُمُ النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَانْقَذَكُمُ الله بِأبي مُحَمَّدٍ بَعْدَ اللتَيّا وَالتي، وَبَعْدَ أنْ مُنِيَ بِبُهَم الرِّجالِ[39] وَذُؤْبانِ الْعَرَبِ وَمَرَدَةِ أهْل الكِتابِ (كُلّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أطْفَأَهَا اللهُ) أوْ نَجَمَ قَرْنٌ للشّياطِينِ[40]، أوْ فَغَرَتْ فاغِرةٌ[41] مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَذَفَ أخاهُ فِي لَهَواتِها[42]، فَلا يَنْكَفِىءُ حَتّى يَطَأ صَماخَها بأخْمُصِهِ[43]، وَيُخْمِدَ لهبتها بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً فيِ ذاتِ الله، مُجْتَهداً فيِ أمْرِ اللهِ، قَريباً مِنْ رَسُولِ الله، سَيِّداً في أولياء اللهِ، مُشَمِّراً ناصِحاً مُجِدّاً كادِحاً، وَأنْتُمْ فيِ رَفاهيَةٍ مِنَ الْعَيش وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنا الدَّوائِرَ[44]، وَتَتَوَكّفُونَ الأخْبارَ[45]، وَتَنْكِصُونَ عِنْدَ النِّزالِ[46]، وَتفِرُّونَ مِنَ الْقِتال، فَلمّا اخْتارَ اللهُ لنَبِيّهِ دارَ أنْبِيائهِ، وَمَأْوى أصْفِيائهِ، ظَهَرتْ فِيكُمْ حَسِيكَةُ النِّفاقِ[47] وَسَمَلَ جِلْبابُ الدِّينِ، وَنَطَقَ كاظِمُ الْغاوينِ[48]، وَنَبَغَ حامِلُ الآفِلينَ[49]، وَهَدَرَ فَنيقُ الْمُبْطلِينَ[50]، فَخَطَرَ فيِ عَرَصاتِكُمْ[51]، وأطْلَعَ الشّيطانُ رَأسَهُ مِنْ مَغْرِزِهِ[52] هاتِفاً بِكُمْ، فألْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتجِييِنَ، وللغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِينَ[53]، ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُم خِفافاً، وَأحْمَشَكُمْ فألْفاكُمْ غِضاباً[54] فَوَسَمْتُمْ غَيْرَ إِبِلِكُمْ[55]، وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُمْ. هذا وَالْعهْدُ قرِيبٌ، وَالْكَلْمْ رَحِيبٌ[56]، وَالْجُرْحُ لّما يَنْدَمِلُ، وَالرَّسُولُ لَمّا يُقْبَرُ؛ امْتِداداً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ (ألا فيِ الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ جَهَنّمَ لَمُحيِطَةٌ بِالْكافِريِنَ). فَهَيْهاتَ مِنْكُمْ وَكَيْفَ بِكُمْ، وَأنّى تُؤْفَكُونَ، وَهذا كِتابُ الله بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ: أُمُورُهُ ظاهِرَةٌ، وأَحْكامُهُ باهِرةٌ، وَزَواجرُهُ لائِحَةٌ، وَأوامِرُهُ واضِحَةٌ، فَقَدْ خَلّفْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، أرَغْبَةً عَنْهُ تُدْبِرُونَ، أمْ بِغَيْرهِ تَحْكُمُونَ (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا إلّا رَيْثَما تَسْكُنُ نَفْرَتُها[57]، وَيَسْلَسُ قِيادُها، ثُمَّ أخَذْتُم تُورُونَ وَقْدَتَها، وَتُهيِجُونَ مِنْ جَمْرِتِها، وَتَسْتَجِيبُونَ لِهِتافِ الشَّيطانِ الْغَويّ وَإطفاءِ نُورِ الدّينِ الْجَلِيِّ، وَإهْمَالِ سُنَن النَّبيِّ الصَّفِيِّ، تُسِرُّونَ حَسْواً فِي ارتِغاء[58] وتَمْشُونَ لأهْلهِ في السَّرّاءِ وَالضّرّاءِ، وَنَصْبِرُ مِنْكُمْ عَلى مِثلِ حَزِّ الْمُدى وَوَخْزِ السِّنانِ فيِ الحَشى[59] وَأَنْتُمُ اْلآنَ تَزْعُمُونَ: أَنْ لا إرثَ لِي مِنْ أَبي: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، أفَلا تَعْلَمُونَ...
- بَلى قَدْ تَجَلّى لَكُمْ كَالشّمْسِ الضّاحِيَةِ -: أنِّي ابْنَتُهُ، وَيْهاً أيُّهَا الْمُسْلمُونَ، أَأُغْلَبُ عَلى تُراثِ أبيِ؟ يا ابْنَ أبيِ قُحافَةَ؟!! أَفيِ كِتابِ اللهِ أنْ تَرثَ أباكَ، ولا أرِثَ أَبيِ؟ قَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيّاً أَفَعَلى عَمْدٍ تَركْتُمْ كِتابَ اللهِ، وَنَبَذْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، إذْ يَقُولُ: (وَوَرِث سُليْمانُ داوُدَ)، وَقالَ فِيما اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يَحْيى بْنِ زَكَريّا إذْ يَقُولُ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَليّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضيّاً)، وَقالَ: (وَأُولوُ الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعض فيِ كِتابِ الله)، وَقالَ:( يُوصِيكُمُ اللهُ في أوْلادِكُمْ لِلذّكَرِ مثْلُ حَظِّ اْلأُنْثَيَيْنِ)، وَقالَ: (إنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلوالِديْنِ واْلأقْربيِنَ بِالمَعرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ).
وَزَعَمْتُمْ أنْ لا حَظْوَةَ لِي[60] وَلا إرْثَ مِنْ أبي وَلا رَحِمَ بَيْنَنا، أفَحَصَّكُمُ اللهُ بِآيَةٍ أَخْرَجَ مِنها أبِي؟ أمْ تَقُولُونَ: أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوارَثانِ؟ أَوَ لَسْتُ أَنا وَأبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ واحدةٍ؟ أَمْ أنْتُمْ أعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أبي وَابْنِ عَمِّي؟ فَدُوَنَكَها مَخْطُومَةً مَرْحُولَةً[61] تَلْقاك يَوْمَ حَشْرِكَ، فَنِعْمَ الحَكَمُ اللهُ، وَالزَّعِيمُ محَمّدٌ، وَالموعِدُ الْقيامَةُ، وَعِنْدَ السّاعَةِ يَخْسَرُ الْمُبْطِلوُنَ وَلا يَنْفَعُكُمْ إذْ تَنْدِموُنَ: (وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ)، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ).
يا مَعْشَرَ الْفِتْيةِ وَأَعْضادَ الْمِلَّةِ، وَحَضَنةَ الإِسْلامِ، ما هذِهِ الْغَمِيزَةُ فيِ حَقِّي[62] وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلامتِي. أما كانَ رَسُولُ اللهِ أبيِ يَقُولُ: (ألْمَرءُ يُحْفَظُ في وُلْدِهِ) سَرْعانَ ما أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلان ذا أهالةٍ[63] وَلَكُمْ طاقَةٌ بِما أُحاوِلُ، وَقُوّةٌ عَلى ما أَطْلِبُ وَأُزاوِلُ، أَتَقُولُونَ: ماتَ مُحَمَّدٌ، فَخَطْبٌ جَلِيلٌ، اسْتَوْسَعَ وَهْيُهُ[64]،
وَاسْتَنْهَرَ فَتْقُهُ[65]؛ وَانْفَتَقَ رَتْقُهُ[66]، وَأَظْلَمَتِ الأَرْضُ لِغَيْبتِهِ، وَكُسِفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ لِمُصِيبتَهِ، وَأكْدَتِ اْلآمالُ[67]، وَخَشَعَتِ الْجِبالُ، وَأُضِيعَ الْحَريِمُ، وَأُدِيلَتِ الْحُرْمَةُ عِنْدَ مَماتِهِ[68]، فَتلْكَ وَاللهِ النّازِلةُ الْكُبْرى وَالمُصِيبَة الْعُظْمى، الّتي لا مِثْلُها نازِلَةٌ وَلا بائقَةٌ عاجِلَةٌ[69]، أَعْلَنَ بِها كِتابُ اللهِ جَلَّ ثَناؤُهُ فيِ مَمْساكُمْ وَمَصْبَحِكُمْ هِتافاً وَصُراخاً وَتِلاوَةً وَإلْحاناً، وَلَقَبْلَهُ ما حَلّتْ بِأنبِياءِ اللهِ وَرُسُلِهِ، حُكْمٌ فَصلٌ؛ وَقَضاءٌ حَتْمٌ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ).
إِيهاً، بَنِي قَيْلَةَ: أَأُهْظَمُ تُراثَ أَبِي، وَأَنْتُمْ بَمرْأىً وَمَسْمَعٍ وَمُنْتَدىً وَمَجْمَعٍ، تَلْبِسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وَتَشْمَلَكُمُ الْخِبْرَةُ وَأنْتُمْ ذَوُو العَددِ وَالْعِدَّةِ واْلأَداةِ وَالْقُوَّةِ، وَعِنْدكُمُ السِّلاحُ وَالجُنَّةُ[70]، تُوافِيكُمُ الدّعْوَةُ فَلا تُجِيبُونَ، وَتَأْتيِكُمُ الصَّرْخَةُ فَلا تُغِيثُونَ، وَأَنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفاحِ، مَعْروفُونَ بِالخَيْرِ وَالصَّلاحِ، وَالنُّخْبَةُ الّتي انْتُخِبَتْ، وَالخَيَرةُ الَّتي اخْتِيرَتْ، لَنا -أَهْلَ الْبَيْتِ- قاتَلْتُمُ الْعَرَبَ وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدّ وَالتَّعَبَ، وَناطَحْتُمُ اْلأُمَمَ وكافَحْتُمُ الْبُهَمَ: فَلا نَبْرَحُ وَتَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ، حَتّى إذا دارَتْ بِنا رَحَى الإِسلامِ، وَدَرَّ حَلْبُ الأيّام؛ وَخضَعَتْ نَعْرَةُ الشِّرْكِ[71] وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ اْلإِفِكِ، وَخَمَدَتْ نِيرانُ الْكُفْر، وَهَدَأتْ دَعْوَةُ الْهَرَجِ، وَاسْتَوسَقَ نِظامُ الدِّينِ، فأنّى جُرْتُمْ بَعْدَ الْبَيانِ[72]، وأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الإعْلانِ، وَنَكَصْتُمْ بَعْدَ الإقْدام[73]، وَأَشْركْتُمْ بَعْدَ الإيمانِ، بُؤْسأً لِقَوْمِ (نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ).
ألا وَقَدْ أرى أّنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إلى اْلخَفْضِ وَأَبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أحَقُّ بِالبسْطِ وَالْقَبْضِ، وَرَكَنْتُمْ إلَى الدِّعَةِ[74] وَنَجَوْتُمْ مِنَ الضَّيقِ بالسَّعَةِ، فَمَجَجْتُمْ ما وَعيْتُمْ[75] وَدَسَعْتمْ ما تَسَوَّغْتُمْ[76]: فـ(إنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فيِ الأَرضِ جَمِيعاً، فَإنّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ).
أَلا وَقَدْ قُلْتُ ما قُلتُ عَلى مَعْرِفَةٍ مِنِّي، بِالخذْلَةِ الّتيِ خامَرَتْكُمْ، وَالْغَدْرَةِ الَّتِي اسْتَشْعَرَتْها قُلوُبُكُمْ: وَلكِنَّها فَيضَةُ النَّفْسِ، وَبَثَّةُ الصَّدرِ، وَنَفْثَةُ الْغَيْظِ، وَتَقدِمَةُ الْحُجَّةِ، فَدُونَكُمُوها فَاحْتَقِبُوها دَبِرَةَ الظّهْرِ[77] نَقِبَةَ الْخُفِّ[78]،
باقِيَةَ الْعارِ؛ مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللهِ وَشنارِ اْلأَبَدِ[79]، مَوْصُومَةً بـ(نارِ اللهِ الْموقَدَةِ التيِ تَطَّلِعُ عَلَى اْلأفْئِدةِ إنَّها عَلَيهِمْ مُوصَدَةٌ)[80] فَبِعَيْنِ اللهِ ما تَفْعَلُونَ (وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ منْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ). وَأَنا ابنةُ نَذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ. فَاعْمَلوُا إنّا عامِلوُنَ، (وَانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِروُنَ)).
كـيف يُـرجى السِّلْمُ مِن دهرٍ على
أهلِ بيتِ الوحيِ قد شَنّ المَغارا ؟!
لــم يـُخـلِّفْ أحـمدٌ إلّا أبـنةً
ولَـكَم أوصـى بـها القومَ مِرارا!
كـابَدَت بـعد أبـيها الـمصطفى
غُصَصاً.. لو مَسَّتِ الطَّودَ لَمارا
غَـصَبوها حَـقَّها جَـهْراً.. ومِـن
عَـجَبٍ أن تُغصَبَ الزهرا جِهارا!
وَيْـلَـهُم! مـاضَرَّهم لـو نَـحَبَت
بَـضعةُ الـمختارِ أيّـاماً قِصارا ؟!
مَن سعى في ظُلِمها ؟! مَن راعها؟!
مَـن على فاطمةَ الزهراءِ جارا ؟!
مَـن غـدا ظُـلماً على الدارِ التي
تَـخِذَتها الإنـسُ والجنّ مَزارا ؟!
طـالما الأمـلاكُ فـيها أصـبحَت
تَـلِثمُ الأعـتابَ فـيها والـجِدارا
ومِـن الـنارِ بـها يـنجو الورى
مَـن عـلى أعتابها أضرمَ نارا ؟!
والـنبيُّ الـمصطفى كـم جـاءها
يـطلبُ الإذنَ مِن الزهرا مِرارا ؟!
وعـلـيها هـجَـمَ الـقومُ، ولـم
تكُ لاثَت.. لا وعَلْياها الخِمارا!
لـستُ أنـساها.. ويـالَهفي لـها!
إذ وراءَ الباب لاذَت كي تَوارى
لا تَـسَلْني كـيف رَضُّـوا ضِلعَها
واسْـألنّ الـبابَ عـنها والـجدارا
واسـألَنْ أعـتابَها عن « محسنٍ »
كـيف فـيها دَمُـه راح جُبارا
وهــل الـمسمارُ مـوتورٌ لـها فـغدا
فـي صدرها يُدركُ ثارا ؟![81]
..................................................................................................................................................................
[1] أجمع أبو بكر ... أي أحكم النية والعزيمة عليه.
[2] أي عصبته وجمعته يقال: لاث العمامة على رأسه يلوثها لوثا، أي شدها وربطها.
[3] الجلباب، بالكسر: يطلق على الملحفة والرداء والإزارة، والثوب الواسع للمرأة دون الملحفة والثوب كالمقنعة تغطي بها المرأة رأسها وصدرها وظهرها. والأول هنا أظهر.
[4] اللمة، بضم اللام وتخفيف الميم: الجماعة. قال في النهاية: في حديث فاطمة (عليها السلام) أنها خرجت في لمة من نسائها، تتوطأ ذيلها إلى أبي بكر فعاتبته، أي في جماعة من نسائها. قيل: هي ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: اللمة: المثل في السن والترب.
[5] الحفدة، بالتحريك: الأعوان والخدم