ما لا تعرفه عن أسلوب الشريف الرضي... في جمع نهج البلاغة!

السبت 28 يوليو 2018 - 11:24 بتوقيت مكة
ما لا تعرفه عن أسلوب الشريف الرضي... في جمع نهج البلاغة!

...فأجمعت بتوفيق اللّه تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثمّ محاسن الكتب...

كان للسيد الرضي رحمه الله أُسلوبه الخاص في جمع (نهج البلاغة) وتدوينه، تحدّث عنها في مقدمة الكتاب، نعرض لها باختصار ضمن نقاط:

۱ ـ قام رحمه الله بجمع ما تفرّق من كلام الإمام عليه السلام من مصادره الموثوقة، ودوّنه في أوراق متفرّقة ليستدرك ما يشذّ عنه مستقبلاً، ثم عمد إلى اختيار محاسن كلامه، فحذف ما شاء مما اجتمع عنده، وانتقى ما شاء وفق ذوقه وسليقته، ومبناه البلاغي، ومنهجه في النظم.

فابتدأ باختيار محاسن الخطب، ثمّ محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم، وكان يعترف بعجزه وقصوره عن الإحاطة بأقطار كلامه عليه السلام مع بذل الجهد وبلاغة الوسع ؛ لغزارته وسعة موارده، يقول الرضي: «... فأجمعت بتوفيق اللّه تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثمّ محاسن الكتب، ثمّ محاسن الحِكَم والأدب، مفرداً لكلّ صنف من ذلك باباً، ومفضّلاً فيه أوراقاً، لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذّ عنّي عاجلاً، ويقع إليّ آجلاً... »(1).

۲ ـ إنّ جميع ما ضمّه النهج، أخذه الرضي من المصادر التي سبقته زماناً، أو التي عاصرته ؛ ولمّا لم تكن غايته فيما يختاره من كلام الإمام عليه السلام تحقيق سنده، ولا تصحيح روايته، بقدر اهتمامه بما ينسجم مع الجانب البلاغي والبياني الذي امتاز به، ولذلك أدرج في النهج ما وجده أمامه من كلمات الإمام وخطبه، وكتبه في مؤلفات المؤرخين والمحدّثين، مما نقلوه ورووه عن الإمام عليه السلام، وعزوه إليه من دون أن يسنده إليه، وعذره في ذلك أنه لم يكن بعمله هذا راوياً، بمعنى الرواة، ولا محدّثاً على طريقة المحدثين، الذين يدونون الروايات والأحاديث بأسانيد متصلة إلى من صدرت عنه، وإنّما كان أديباً له حسٌّ أدبي فريد، تغريه روائع البلاغة والبيان، ولا يلوي على شيء آخر سواها(2).

ولذا فإنّ الباحث لا يجد كثير صعوبة في العثور على جلّ ما في النهج في أكثر من مصدر مما قد صنّف قبل عصر الرضي رحمه الله.

۳ ـ لمّا كانت مهمّة الرضي محصورة بالجمع مع التمحيص والتحقيق والانتقاء لضبط مادة النهج ؛ لإبراز بلاغة الإمام عليه السلام وفصاحته، فلم يراع فيما اختاره التنسيق والتتالي، ولذا جرّت هذه الطريقة مشاكل على حساب التنسيق الفني، ودقة التصنيف والنظم، يقول الرضي: « وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متّسقة، ومحاسن كلمٍ غير منتظمة ؛ لأني أورد النكت واللّمع، ولا أقصد التتالي والنسق »(3).

٤ ـ صنّف السيد الرضي (النهج) بحسب الفنون النثرية، لا بحسب الموضوعات، فابتدأ الخطب، ثم الرسائل، ثم الحكم، وكان من الممكن أن تضاف إليه أشكالٌ اُخر من فنون النثر، مثل الدعاء، الخاطرة، الزيارة، والمحاورة، والمقالة... الخ، إلاّ أنه أدرجها ضمن الأبواب اللائقة بها بحسب مقياسه الجمالي والبلاغي، وأشدّها ملامحة لغرضه: « ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة، أولها: الخطب والأوامر ؛ وثانيها: الكتب والرسائل ؛ وثالثها: الحكم والمواعظ »(4).

٥ ـ بناء على خطته في الجمع، نراه قد يختار من الخطبة الطويلة مقطعاً منها فيقتطعه، وربما يجمع خطبة واحدة من خطب شتى، ويوزّع الخطبة الواحدة إلى عدة فصول، ويدرج كلّ فصل منها في موضع مستقل، كما أنه قد يكرر في كتابه، الكلام الواحد أو الخطبة الواحدة لوجود رواية اُخرى تختلف عن الأُولى، يقول رحمه الله: « وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد، والمعنى المكرر، والعذر في ذلك أنّ روايات كلامه عليه السلام تختلف اختلافاً شديداً. فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنُقلَ على وجهه، ثم وُجد بعد ذلك في رواية اُخرى، موضوعاً في غير موضعه الأوّل، أمّا بزيادة مختارة، أو لفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد، استظهاراً للاختيار، وغيرةً على عقائل الكلام... »(5).

وربما يختار من خطب متعددة فصولاً ويوردها بنسق خطبة واحدة(6).

وقد أشار إلى ذلك ابن أبي الحديد في مواضع كثيرة ففي شرح الخطبة (۱۲۱)، فقال: « هذا الكلام يتلو بعضه بعضاً ؛ ولكنه ثلاثة فصول لا يلتصق أحدها بالآخر ؛ وهذه عادة الرضيّ، تراه ينتخب من جملة الخطبة الطويلة كلمات فصيحة، يوردها على سبيل التتالي، وليست متتالية حين تكلّم بها صاحبها »(7).

وفي موضع آخر من شرحه قال:« هذا كلام منقطع عمّا قبله ؛ لأنّ الشريف الرضي رحمه الله كان يلتقط الفصول التي في الطبقة العليا من الفصاحة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام فيذكرها، ويتخطّى ما قبلها وما بعدها »

وقال أيضاً في شرح الخطبة (٤٥): إن الرضي رحمه الله يلتقط كلام أمير المؤمنين عليه السلام التقاطاً ولا يقف مع الكلام المتوالي، لأنّ غرضه ذكر فصاحته عليه السلام لا غير، ولو أتى بخطبه كلّها على وجهها لكانت أضعاف كتابه الذي جمعه. وفي الخطبة (۱۳۳) بنفس المضمون.

فنهج البلاغة، وإن خلا من وحدة النظم والتنسيق والانسجام بين فصوله، بهذا المعنى الذي ذكرناه، إلاّ أنه انتظمته وحدة الروح والمثل والأُسلوب على اختلاف موضوعاته ومقاصده وفنونه، فحينما نطل على (النهج) تغمرنا أنواره المشرقة، وعبقاته العطرة، ويستولي على مشاعرنا جوّ روحاني إيماني أخّاذ، وكأن المكانة السامية والمقام الروحي لأمير المؤمنين وسيد الأوصياء عليه السلام لا تبعد آناً ما، عمّا هو مسطور فيه، فتحسُّ بأدب الوحي والنبوة، وروحانية الإيمان الصادق، وأخلاق الإمام المعصوم، كل ذلك في صور فنية رائعة في أعلى طبقات البلاغة والفصاحة.

يقول سبط ابن الجوزي البغدادي (٦٥٤ هـ) في تذكرته « كان عليّ عليه السلام ينطق بكلام قد حُفّ بالعصمة، ويتكلّم بميزان الحكمة، كلام ألقى اللّه عليه المهابة، فكلّ من طرق سمعه راعه فهابه، وقد جمع اللّه له بين الحلاوة والملاحة، والطلاوة والفصاحة... ألفاظ يشرق عليها نور النبوة ويحيّر الأفهام والألباب ."(8).

وكأننا نقرأ شخصية الإمام وسيرته بين سطور النهج كما وصفها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم: « لايعرفك إلاّ اللّه وأنا »(9).

وقد قدّم السيد الشريف رحمه الله بعمله هذا خدمة كبيرة على مرّ العصور للأدب واللغة والأخلاق، وللإنسانية عموماً، وسوف يوفّى أجر المصلحين والمحسنين «إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» (10)، «وَلاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ»(11)

فالنهج نسخة فريدة بين آثار بني الإنسان تشتمل على معارف إلهية عالية، ومنهاج للأخلاق، وقوانين في الاجتماع، والسياسة، والحرب، والاقتصاد... ودروس في الحكمة، والأدب، والعرفان... الخ. ينهل منه العارف، والفيلسوف، والمتكلم، وعالم الاجتماع والسياسة والحرب، والفقيه، والحكيم، والأديب....

الهوامش:

(1) المصدر السابق.

(2) مصادر نهج البلاغة، الشيخ عبد اللّه نعمة، ص٥٦، مطابع دار الهدى ۱۳۹۲ ه / ۱۹۷۲ م.

(3) نهج البلاغة مقدمة الشريف الرضي.

(4) المصدر السابق.

(5) اُنظر مصادر نهج البلاغة، ص٥٦ مصدر سابق ؛ ومدارك نهج البلاغة، الشيخ هادي كاشف الغطاء، ص۲۰٦، منشورات مكتبة الأندلس ـ بيروت.

(6) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد ۷/۲۹۸ الأصل (۱۲۱)، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، طبعة دار الكتب العلمية (اسماعيليان) ـ قم، اُفست عن طبعة دار إحياء الكتب العربية (عيسى البابي الحلبي وشركاه) ـ القاهرة ۱۹٦۰ م.

(7)المصدر السابق ۷/۱۸۸ الأصل (۱۰۷)، وهي من خطب الملاحم.

(8)تذكرة الخواص، ص۱۱۹ الباب السادس، إصدار مكتبة نينوى الحديثة ـ طهران.

(9)مناقب آل أبي طالب،ابن شهرآشوب ۲/٦۰ ؛ مختصر بصائر الدرجات، الحسن بن سليمان، ص۱۳٥.

(10)سورة الأعراف ۱۷۰.

(11)سورة التوبة ۱۲۰.

المصدر: موقع نهج البلاغة

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 28 يوليو 2018 - 11:23 بتوقيت مكة