عن أية أخلاق نتحدث؟

الثلاثاء 17 إبريل 2018 - 21:17 بتوقيت مكة
عن أية أخلاق نتحدث؟

إن العلاج الأخلاقي بذاك المفهوم لن يقتصر على الإطار الشكلي للعلاقات الإنسانية، بل لا بد أن يدخل إلى المنبع الداخلي (النفس) لتلك العلاقات مهذباً ومربياً ومؤدباً وعاملاً على تزكية تلك النفس...

أ.د.محمد شقير

إن من الأهمية بمكان أن ندرك بداية عن أية أخلاق نتحدث، فهل يدور الحديث عن أخلاق المنفعة المادية، أم أنه يرتبط بتلك المنظومة الأخلاقية التي ترتكز على الدين والغيب والروح؟ إذ إن استخدام مفهوم الأخلاق في أكثر من مجال يفرض علينا أن نبادر أولاً إلى هذا التمييز حرصاً منا على تقديم الفكرة بشكل واضح وبعيد عن الالتباس.

إننا نتحدث عن تلك الأخلاق التي تستمد جذورها من الفطرة والدين وترتكز على الغيب والروح ومحورية النفس، أي تلك الأخلاق التي تعطي الأهمية للجانب الروحي ولتهذيب النفس وترويضها وفك أسرها من قيود المادة والدنيا.

إن أخلاق الرحمة والمحبة وإرادة الخير والسعادة للإنسان والوجود، هي الكفيلة بالعناية وبالإسهام في الوظيفة مورد البحث.

إن ميزة الأخلاق الدينية التي ترتكز على الغيب أنها استطاعت أن تقوم بعملية توحيد بين منفعة النفس ومنفعة الغير، حيث لا يغدو نفع الغير إلا نفعاً للنفس، وحيث لا يمكن الحصول على نفع أكمل للنفس إلا من خلال نفع الغير، وإن هذه المزاوجة بين نفع الأنا ونفع الغير لا نجدها في غير المنظومة الأخلاقية الدينية، إلا بمعنى من المعاني لا يشفي الغليل ولا يقنع السائل.

ولذلك يمكن القول إن الأخلاق الدينية لا تنبذ المنفعة ولكنها توسع مجالها إلى مستوى يشمل النفس ويتضمن الروح ويستوعب الآخرة ولا يبقى محصوراً في حدود البدن والمادة والدنيا، وبالتالي فإن تلك الأخلاق تهذّب علاقة الإنسان بالمادة وتجعلها قائمة على أساس من تلك المزاوجة وذلك التوحيد، وهو ما يسمح بتأسيس مختلف لأخلاق المنفعة يخدم العلاقات الإنسانية وسلامتها في مختلف المجالات.

وينبغي الإشارة إلى أن الأرضية التي تقوم عليها تلك المزاوجة هي الغيب الذي يعطي مضموناً مختلفاً لجملة من المفاهيم الأخلاقية، ويفتح لتلك المفاهيم باباً يطل بها على عالم أرحب رحب الروح وفضاء أوسع سعة الغيب؛ ومن هنا فإن أساسية الغيب للمنظومة الأخلاقية هي أساسية تسري بتأثيراتها إلى المفاهيم والمفردات الأخلاقية.

إن الأخلاق القادرة على القيام بتلك المهمة في إعادة التوازن على مستوى علاقة الإنسان بالمادة والروح هي تلك الأخلاق التي ترى الإنسان موضوعاً والله تعالى هدفاً، وموضوعية الإنسان هي أيضاً في جانبه الروحي – وليس فقط المادي - وفي نفسه حيث تعمل تلك الأخلاق تهذيباً وترويضاً وتزكية، وهدف العملية الأخلاقية هو الله تعالى وفوزاً برضاه وطيّاً للفيافي في سبيل السير والسلوك إليه تعالى.

وبناءً على ما تقدم نجد من الضروري الدعوة إلى عولمة أخلاقية تعيد الاعتبار لمفاهيم الضمير والخير والرحمة، وتعيد الاعتبار للإنسان كقيمة بحد ذاته لا باعتباره مصدراً للنفع وموضوعاً للربح والمصلحة المادية.

إن أخلاقية السوق تسعى إلى بسط سلطتها في أرجاء المعمورة، وهي تعمل بقوة على ضخ مفاهيمها في الذهنية الجمعية لشعوب الأرض وهي تتوسع على حساب أخلاقية الإنسان، إنها تسعى إلى السيطرة الثقافية على أنماط التعامل الإنساني، مع ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من سيادة معايير في التعامل ترتكز على النفع المادي دون أخذ بعين الاعتبار للقيم الانسانية وقيمة الإنسان.

إن تلك العولمة الأخلاقية – التي ندعو إليها – يجب أن ترتكز على عنصرين: الأول وهو البعد الغيبي وما يؤثره من رسم فضاء أوسع للقيم والمعايير الأخلاقية، وما يؤدي إليه من توحيد بين مصلحة الأنا ومصلحة الغير ولو في تلك المساحة التي يسهم كل من العقل والنقل في إثباتها وإثبات جميع مفرداتها؛ والثاني هو محورية النفس الإنسانية وما تختزنه من فطرة نقية وضمير حي بما يؤسس لانطلاقة واعية ومدركة من تلك النفس لتجعل بالتالي من ذاتها محلاً لعملها وجهدها، بمعنى أن تكون الهدف والموضوع والمحور الذي تدور حوله القضايا الأخلاقية التي تستشرف الغيب والدين والله تعالى.

إن من الأهمية بمكان أن ندرك أن هذه المنظومة الأخلاقية التي نحن بصدد الحديث عنها، هي منظومة أخلاقية ترتكز على المبادئ الدينية والروح الدينية التي تنسجم والأسس التي أشرنا إليها، وهي تستمد مضامينها من الدين، وبالتالي فإن تلك المنظومة الأخلاقية هي منظومة أخلاقية إلهية ودينية.

وأمام هذا المشهد المتردي على المستوى الأخلاقي والقيمي، والذي ينذر بعواقب خطيرة تمس المجتمع البشري عامة، لا بد للمنظومة الأخلاقية أن تبادر للقيام بوظيفتها على أتم وجه في إحياء النزعة الأخلاقية في الوعي العالمي، وفي إعادة الاعتبار للمعايير الأخلاقية في مختلف المجالات؛ ومن أجل القيام بتلك الوظيفة ينبغي مراعاة هذه الأمور:

1- تقديم خطاب أخلاقي قادر على النفوذ إلى الوعي الشعبي والعقل الجمعي، فالخطاب الأخلاقي يجب ألا يكون خطاباً نخبوياً وهو ليس لفئة دون أخرى، انه لعموم الناس، ويجب أن يستخدم في آلياته البيانية تلك الآليات التي يمكن لعموم الناس أن يفهموا دلالاتها ومعانيها، وينبغي ألا تتحول اللغة والأخلاقية على وجه الخصوص من كونها وسيلة للتفهم والتفهيم إلى حجاب يحول دون الفهم، فهنا تؤدي إلى خلاف الهدف المنشود عنها؛ نعم ينبغي لذلك الخطاب الأخلاقي أن يستخدم جميع الإمكانيات البيانية والبلاغية التي تساعده على القيام بدوره في النفوذ إلى قلوب الناس ونفوسهم، فسحر اللغة وسلامة البيان ولطافة البلاغة يجب أن تكون حاضرة في ذلك الخطاب وبيانه، مع المحافظة على عدم تحوّل اللغة إلى حاجز يمنع عموم الناس من الوصول إلى المفاهيم الأخلاقية، إلا إذا كان لا بد من كتابات أخلاقية تقتضي قوة مضمونها المعرفي وعمق مفاهيمها العلمية لغة خاصة، فهنا تتطلب المصلحة المعرفية هكذا بيان، وإن كان لا بد بالتالي من تسييل تلك المعارف الأخلاقية حتى تصل من خلال فعل التفكيك والتبسيط إلى بيان قوي في عمقه واضح في دلالته، بما يمكّن من فهمه وإدراك معارفه؛ أي إن دور تلك المادة الأخلاقية لا بد أن يقود إلى رفد ذلك الخطاب الأخلاقي ومساعدته في أداء وظيفته.

2- إن من الأهمية بمكان تقديم الأخلاق كمادة معرفية جديرة بالبحث والتنقيب، ويجب أن تدرج على قائمة المواد المعرفية التي تهتم بها جملة من المعاهد والمراكز والمؤسسات ذات العلاقة بفروع العلوم الإنسانية والفلسفية.

إنه لم يعد مقبولاً التعامل مع الأخلاق كمادة معرفية تقع في هامش المواد المعرفية الأساسية كالفلسفة وعلم الاجتماع، إذ إنه من المطلوب أن نحدد المعايير التي يمكن على أساسها أن نختار جملة من المواد المعرفية فيما نعرض عن مواد أخرى، والموازين التي نحكم من خلالها بأولوية بعض المواد فيما ننظر إلى مواد أخرى بأهمية أقل؛ وإذا كانت النفعية – بمفهومها الإيجابي الذي يشمل المادة والروح – معياراً أساسياً في هذا المجال، فهنا من الصعب أن نجد مادة معرفية يمكن لها أن تتقدم على الأخلاق بمفهومها الواسع والشامل وبوظيفتها المرتجاة منها، لأن شعاع الأخلاق لن يدع زاوية في زوايا الإجتماع البشري إلا وسوف يدخل إليها، مسهماً في إصلاح العلاقات الإنسانية وفي سيادة القيم المعنوية والخلقية وفي إعادة التوازن في علاقة الانسان بالمادة والروح.

إن الأخلاق بذاك المعنى لا بد أن تدخل إلى المصنع والمتجر والمدرسة والجامعة، ولا بد أن تعنى بالبيت والأسرة، وينبغي أن تكون السائدة في المؤسسات وفي الأطر السياسية والاجتماعية وفي العلاقات الدولية، إن الأخلاق عندها لا بد أن تكون قادرة على عبور الحواجز والحدود والقارات وأن تتجاوز جميع الفروقات المصطنعة أو الواقعية بين بني الإنسان، لأنها سوف تخاطب ذلك القاسم المشترك بينهم، أي أنها سوف تخاطب العقل وتراود الضمير وتناجي الفطرة وتحاكي القلب.

إن العلاج الأخلاقي بذاك المفهوم لن يقتصر على الإطار الشكلي للعلاقات الإنسانية، بل لا بد أن يدخل إلى المنبع الداخلي (النفس) لتلك العلاقات مهذباً ومربياً ومؤدباً وعاملاً على تزكية تلك النفس، لتكون الرصيد الأكبر والكنز الأعظم في تلك العلاقات .

3- إن من المطلوب تشكيل نظام للبحث الأخلاقي تتوفر فيه جملة من المميزات، التي تعطي القدرة للفعل المعرفي الأخلاقي على إنماء المعرفة الأخلاقية وتطويرها، بما يجعلها قادرة على القيام بوظائفها ومهامها، على أن يلحظ بشكل أساس التقسيم الموضوعي في البحث الأخلاقي، ليجعل البحث متمحوراً حول موضوعات حيوية وقضايا عملية تمس صميم الواقع الحياتي للمجتمع البشري، وهو ما سوف يوفر لدينا أكثر من نتاج يدور حول عناوين الأخلاق الاجتماعية والأخلاق السياسية والأخلاق الأسرية وأخلاق العامل وأخلاق التاجر وأخلاق الزوج وأخلاق الزوجة ... وبالتالي لا بد أن تتوفر في ذلك النظام هذه المميزات الأساسية:

أولاً: يجب أن يكون متلائماً ومنسجماً مع متطلبات العصر وحاجاته، بما يعني أن النتاج الذي سوف يسهم ذاك النظام في الوصول إليه يجب أن يكون قادراً بشكل فعّال على الولوج إلى جميع مفاصل المجتمع وميادينه.

ثانياً: يجب أن يوفر مستوى أكبر من الفرصة للإنتاج في المادة مورد البحث، إذ إن بعض مناهج البحث وأنظمته تجعل الإنتاج عقيماً إلى حدٍّ كبير، بينما نجد أنظمة ومناهج أخرى تسهم بشكل قوي في زيادة الإنتاج المعرفي ونوعيته.

ثالثاً: من المهم أن يسمح ذاك النظام بالاستفادة من جملة من مناهج العلوم الانسانية التي تتلاءم مع تلك المادة الأخلاقية من أجل أن تسهم في تفعيل البحث الأخلاقي، ولا ضير في ذلك طالما أن المنهج الأخلاقي قد رأى إمكانية الاستفادة من هذه الأدوات المنهجية أو تلك .

4- وبالتالي نجد من الأهمية بمكان العمل على تخصيب المادة الأخلاقية بمختلف مجالاتها، والمراد بذلك الاستفادة من جميع الامكانيات المعرفية في سبيل تفعيل البحث وتطويره في هذا الحقل المعرفي، ولا شك أن ما ذكرناه من نقاط سابقة يسهم في هذه النتيجة، ألا وهي إنماء المعرفة الأخلاقية وتطويرها وجعلها قادرة على مواكبة الفضاء المعرفي الذي تسبح فيه.

أي إن المطلوب إيجاد بيئة علمية تحفّز للبحث في هذا الحقل العلمي وتدفع إليه وتشجع للإنتاج فيه، سواءً في جانبه العامودي، أي على مستوى تعميق المفاهيم والبحث في جذورها المعرفية والفلسفية وإرجاعها إلى أسسها الكلامية والعلمية؛ أو في جانبه الأفقي على مستوى شرح تلك المفاهيم وتطويرها والعمل على تسييلها، بما يسهم في إغناء تلك المباحث الأخلاقية وجعلها من أولويات المواد المعرفية، التي تدفع الباحثين إلى التنقيب والتحقيق فيها وإلى استخدام جميع أدوات البحث ووسائله وأساليبه.

إن ما يمكن أن نصل إليه من خلال ما تقدم هو أن الوظيفة الإنقاذية للأخلاق ما زالت قائمة، بل كلما تقدم بنا الزمن كلما كانت الحاجة إلى تلك الوظيفة أكثر، لكن الأخلاق – كمادة معرفية – في وضعها الحالي تحتاج إلى الكثير من الجهد المنهجي حتى يمكن لها من القيام بوظيفتها خير قيام، فيما يرتبط بالتزكية والتهذيب وتكريس العلاقات القائمة على أساس القيم والمبادئ الانسانية، وبشكل عام حتى تتجه إلى صناعة الإنسان من خلال بناء نفسه وتغذيتها بالقيم.

إن تلك الأمور التي ذكرناها فيما يرتبط بتخصيب المادة الأخلاقية، وتشكيل نظام للبحث الأخلاقي قادر على أن يفي بهذه المهمة، وتقديم الأخلاق كمادة معرفية تمتلك أولويتها الدراسية في المؤسسات الأكاديمية والمعاهد الدراسية والعلمية، فضلاً عن تقديم خطاب أخلاقي يملك إمكانية النفوذ إلى جميع مفاصل الحياة الاجتماعية وزواياها؛ إن جميع هذه الأمور تسهم بشكل قوي وفاعل في مساعدة الأخلاق على القيام بوظيفتها في الظروف الحالية لمجتمعنا المعاصر.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 17 إبريل 2018 - 21:17 بتوقيت مكة