وصايا كاظمية رائعة...فاعملوا بها

الثلاثاء 10 إبريل 2018 - 10:09 بتوقيت مكة
وصايا كاظمية رائعة...فاعملوا بها

وهذا الحديث يخاطب النّاس الّذين يواجهون الحياة في كلِّ صراعاتها وفي كلّ إشكالاتها بالطّريقة السّلبيّة، بحيث لا يسعون إلى اتّخاذ المواقف وفقاً لما يصل إليه تفكيرهم، بل إنّهم اتكاليّون...

آية الله السيد محمد حسين فضل الله

بمناسبة ذكرى الإمام موسى بن جعفر(ع)، لا بدَّ لنا من أن نعيش مع المفاهيم الإسلاميَّة الّتي تتَّصل بحياة المسلم في موقفه أمام التحدّيات التي تواجهه كفرد، أو تواجهه كمجتمع، لأنَّ علاقتنا بأهل البيت(ع) ليست علاقة نبضة قلب يخفق بحبِّهم، وليست علاقة دمعة تسكب على مأساتهم، ولكنَّ قضيَّتهم هي قضيَّة الخطّ الّذي تحمّلوا الصّعوبات وعاشوا التّضحيات من أجل أن يبقى مستقيماً في حياتهم، وتلك هي قضيَّتهم، في أن يعطوا الإنسان من خلال فكر الإسلام في فكرهم، ومن خلال وصايا الإسلام في وصاياهم، إشارة الانطلاق ليعيش إنسانيَّته، بحيث يغني حياته بتلك الإنسانيّة.

مشكلة الأكثريَّة الصَّامتة                         

ومن بعض كلماته في بعض وصاياه، هي قوله(ع) لأحد أصحابه: "أبلغْ خيراً، وقلْ خيراً، ولا تكن إمَّعة"، قيل: وما الإمَّعة؟ قال: "لا تقل أنا مع النّاس، وأنا كواحدٍ من النّاس، إنَّ رسول الله قال: يا أيّها النّاس، إنّما هما نجدان؛ نجد خير ونجدُ شرّ، فلا يكن نجدُ الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"(1)

وهذا الحديث يخاطب النّاس الّذين يواجهون الحياة في كلِّ صراعاتها وفي كلّ إشكالاتها بالطّريقة السّلبيّة، بحيث لا يسعون إلى اتّخاذ المواقف وفقاً لما يصل إليه تفكيرهم، بل إنّهم اتكاليّون، يريدون للآخرين أن يفكِّروا عنهم، ليتحركوا على ضوء ما وصلوا إليه في تفكيرهم، فهم لا يريدون أن يعيشوا مسؤوليّة الفكر، وإنما يقولون للآخرين: فكِّروا لنا، ولا يقولون: فكِّروا معنا.

هؤلاء الَّذين إذا سئلوا عن الموقف في الدّنيا إزاء أيّة مشكلة، قالوا: لا موقف لنا! هؤلاء الَّذين إذا عاشوا ساحة الصِّراع هربوا منها، لأنهم يريدون أن يعيشوا باسترخاء، هؤلاء الحياديّون الذين إذا انطلقت معركة الحقّ والباطل، وقفوا على التّلّ يتفرّجون، وإذا جاءت الغنيمة نزلوا إلى السَّاحة ليأخذوا حصّةً منها... هؤلاء الذين هم مشكلة كلِّ الشّعوب الباحثة عن حرّيتها، والباحثة عن مواقعها، هؤلاء الّذين قد يطلق عليهم اسم "الأكثريّة الصّامتة"، الّتي يتحوَّل صمتها إلى حالة شيطانيّة ينطبق عليهم فيها الحديث: "السّاكت عن الحقّ شيطان أخرس"(2).

الوقوف مع الحقّ

"أبلغ خيراً"، انطلق لتبلغ النّاس الخير كلَّه في كلِّ مواقعه، وفي كلِّ اتجاهاته، وفي كلِّ ساحاته، والحقّ خير، والعدل خير، والظّلم شرّ، بل هو عمق الشرّ. قل الكلمة الخيِّرة الّتي تغني الحياة وتنمِّيها وتطوّرها، وترفع مستواها، قل خيراً ولا تكن إمَّعة، لا تكن رجلاً لا موقف له، فإذا سألك النّاس عن رأيك في مشكلةٍ تعصف بالبلد، قلت أنا واحد من هذا البلد، أو قلت: أنا واحد من جماعة، وأنا واحد من أمّة، فإذا قلت ذلك، ستنسى أنّك الواحد الّذي يمكن أن يجتذب الإثنين والثّلاثة، وأنّك عندما تكون واحداً، فمعنى ذلك أنّك بداية الرّقم، وعندما ينضمّ رقم إلى رقم، فلا بدَّ من أن يشاركه في هذه الحالة الجماعيّة.

لذلك، فإنّك عندما تكون سلبياً، فأنت عضو مسلوب الإرادة. ولهذا رأينا أنّ الإمام الصّادق(ع) أطلق كلمته: "من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"(3)، لأنك عندما تكون مسلماً مع المسلمين، فلا بدَّ من أن تكون عضواً حيّاً يتحرّك معهم ويتألّم لألمهم، وينفتح على مشاكلهم وعلى قضاياهم، أمَّا إذا كنت تردّد قول الشّاعر:

ما علينا إنْ قضى الشَّعبُ جميعاً أفلسنا في أمان؟!

كيف تكون مسلماً؟! صلِّ ما شئت، وصم ما شئت، وحجّ ما شئت، ولكنّك لن تكون مسلماً إذا قمت بكلّ ذلك، وابتعدت عن أمور المسلمين، لأنَّ "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهر والحمى"(4)، فالعضو الّذي لا يحسُّ بالعضو الآخر هو عضو ميت، ينام والأعضاء الأخرى تسهر، هو ليس عضواً، بل شي‏ء يعيش الموقف البارد.

كن صاحب الرّأي، كن الإنسان الَّذي يشارك الآخرين في آرائهم، فإذا أخطأوا صوَّب لهم رأيهم، وإذا أصابوا زاد الصَّواب صواباً. "إنَّ رسول الله(ص) قال: يا أيّها النّاس، إنّما هما نجدان"، أي طريقان، "نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشرِّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"(5)، اختاروا الخير طريقاً في كلِّ مواقفكم؛ في السّياسة، وفي الاجتماع، وفي القضايا الخاصَّة والعامَّة، وفي الحرب وفي السِّلم، لا تكن إنسان اللاموقف، وقد قال عليّ(ع) لولديه الحسنين(ع): "...وكونا للظّالم خصماً وللمظلوم عوناً"(6). ذلك هو خطُّ عليّ(ع)، أن يكون لك الموقف ضدّ الظّلم والظّالمين، ومع العدل والعدالة، فلا مجال للحياد، بل لا بدَّ من أن يكون لك موقف.

الثّقة الزّائفة

الكلمة الثّانية قالها الكاظم لـ"هشام بن الحكم": "يا هشام، لو كان في يدك جوزة، وقال النّاس: لؤلؤة، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنَّها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة، وقال الناس إنّها جوزة، ما ضرَّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة!"(7).

فلا يكن كلام النّاس هو ما يرفع ثقتك بنفسك، أو يسقطك عند نفسك، اعرف نفسك جيّداً، اعرف ما هو حجم فكرك، وما هو حجم طاقتك، واعرف أهدافك وما هي امتداداتها، وخلفيّاتك وما هو عمقها، فإذا جمعت ذلك كلّه، ورأيت أنّك لا تملك انطلاقةً، ولا حجماً كبيراً في الخبرة، ولا سموّاً في الأهداف، وجاء النّاس فكبّروك وضخّموا شخصيّتك ومدحوك، وأنت تعرف نفسك، فاحذر أن يرفعوك إلى فوق، بينما تعرف أنّ موقعك هو في الأسفل، لأنهم إذا حملوك إلى فوق وتركوك، فسوف يكون سقوطك فظيعاً مريعاً، وتلك هي كلمة عليّ(ع)؛ صاحب الحكمة الّذي يُنتَفَعُ بحكمته إلى أعلى الدّرجات، ولو كنّا مع عليّ في حكمته، لكنّا الأمّة الحكيمة، ولكنّنا مع عليّ بانفعالاتنا به لا بعقلنا، ومشكلة الكثيرين ممن يحبّون عليّاً، أنهم يحبُّون سيفه دون أن يعرفوا امتداد سيفه، ولكنّهم لا يحبّون عقله وفكره وحكمته، لأنّها تتعبهم.

وبعض النَّاس عندما يحبّون التّاريخ، لا يريدون أن يتعبهم، ولو تحوَّل التَّاريخ عندهم إلى حاضر، لرجموا الحاضر، في الوقت الّذي يقولون إنهم يقدّسونه، فلو كان عليّ الّذي يقف مع الحقّ بكلِّ قوّة موجوداً الآن، فكم هم من شيعة عليٍّ من يكون معه؟ وكم هم من الّذين ينحرفون، ومن الّذين يظلمون، ومن الّذين يعملون في خطوط الانحراف هنا وهناك؟ كم هم الّذين يسرقون النّاس ويكذبون، ولا يعيشون الصِّدق ويهتفون باسم عليّ؟ هل يتحمّلون عليّاً لو كان معهم؟

لذلك، قالها الإمام الباقر(ع): "لا يغرَّنك النَّاس من نفسك، فإنَّ الأمر يصل إليك دونهم"(8)، فيهمسون لك بكلمة المدح، ويهتفون بشعارات الإغراء، ثم ينصرفون، فتتفاعل الكلمة في نفسك، وتعيش من خلال نتائجها غير الواقعيَّة، وتضيع، ويتركونك تضيع. هذا هو الجانب الأوَّل.

أسس الثِّقة بالنَّفس

الجانب الآخر، أنَّه لو كان في يدك لؤلؤة، وعرفت، وخصوصاً من خلال ما لك من فكر وعقل خبرة وطاقة، عرفت حجمك دون غرور من خلال الحسابات الدّقيقة، وجاءك الناس يريدون أن يسقطوك أو أن يهزموك نفسيّاً، وأن يشتموك وأن يضعفوك، فكن القويّ... لا تضعف، اعرف أنها كلمات تتطاير في الهواء عندما تملك عنصر الثقة في نفسك، وكن الإنسان الذي يعيش في خطِّ هذه الثقة، لا لتعيش الغرور، بل لتعيش واقعك. وعلى ضوء هذا، فعليك عندما تؤمن بأنّك على حقّ، أن ترفض كلَّ الكلمات التي تحاول أن تصفك بالباطل.

قالها "عمَّار بن ياسر"(رض)، وقد هزم جيش عليّ في بعض مراحل الحرب، قال: "والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على حقّ وأنهم على باطل"(9)، لأنَّ قضيَّة أن تعرف الحقّ هي قضيّة أن تبقى معه عندما تعرفه، وتلك هي المسألة على مستوى الفرد، فلا تستعر ثقتك بنفسك من الآخرين، ولا تفقد ثقتك بنفسك من خلال الآخرين، والأمر سيَّان مع الأمَّة، وخصوصاً ونحن نعيش أمام الإعلام الاستكباريّ والإعلام الكافر الّذي يحاول أن يسقطنا نفسيّاً عندما يتحدَّث عن تخلّفنا وتعصّبنا وعن كلّ العناصر السّلبيَّة في شخصيَّتنا، وعندما يريد أن يثير نقاط ضعفنا، فإنَّ علينا أن لا نسكت، نحن لدينا نقاط قوّة ونقاط ضعف، فلنستحضر نقاط القوّة عندما يرجمنا الآخرون بنقاط الضّعف، ولنستحضر نقاط ضعفهم عندما يعرضون عضلاتهم أمامنا بنقاط قوّتهم، فلا نسكت، فإذا كانت لدينا مواطن ضعف، فإنَّ لدينا مواطن قوّة أيضاً.

لذلك، حذار من أن نسقط تحت تأثير الحرب النفسيَّة والإعلاميَّة والسياسيَّة الّتي تريد أن تصوّر لنا أعداءنا أقوياء، كما يحاولون أن يصوّروا لنا إسرائيل، بأنها القوَّة الّتي لا تقاوَم، وبأنها الحضارة الّتي ليس فيها شي‏ء من التخلّف، وقَبِل بعضنا ذلك، بحيث بدأ يتحدَّث عن العرب وعن تخلّفهم وعن تمزّقهم وما إلى ذلك، واكتشفنا اللّعبة، بأنهم ممزَّقون أكثر منّا، واكتشفنا أنهم يعيشون التخلّف كأعمق ما يكون التخلّف، ولكنَّ مشكلتنا أنّ تخلّفهم يتحرك في استراتيجيّة المستكبرين ليقدِّموه لنا كأنّه حضارة، وأنَّ حضارتنا تقف في وجه استراتيجيّة المستكبرين، لذلك يصوِّرونها تخلّفاً، على طريقة ذلك الشَّاعر الّذي يقول:

إذا محاسني اللاتي أدلُّ بها كانت ذنوباً فقل لي كيف أعتذرُ؟!

فعندما يرون التزامنا وقوّتنا وإصرارنا على حريَّتنا، وتطلّعنا إلى العدالة فينا، عندها يسمّون ذلك تخلّفاً، ويحضّرون لنا من قاموسهم كلَّ المفردات التي تسقطنا: "إرهابيّون"، "متعصّبون"، "أصوليّون"، "متخلّفون"، ولكن علينا أن نقول لهم ما قاله عليّ(ع) في مواجهة ذلك الإنسان الذي تزلّف له، فقال له: "أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك"(10)، فنحن فوق ما في أنفسهم بالنّسبة إلينا، وعلينا عندما يقف المستكبرون ضدّنا، أن تكون لنا كبرياؤنا في مواجهتهم، فنحن لا نتكبَّر، ولكنّنا لا نسقط كبرياءنا من خلال أصالتنا الإسلاميَّة، ومن خلال كلِّ أصالتنا الإنسانيّة.

الثَّبات على الحقّ

لذلك ، إذا أردتم أن تعرفوا موسى بن جعفر(ع)، فهاتان الكلمتان هما اللّتان انطلقتا لتكونا سرَّ مأساته، لأنه أكَّد هاتين الكلمتين في موقفه؛ فلقد قال كلمة الحقّ، وخاف منها "هارون الرّشيد"، وأكَّد ثقته بموقعه، وخاف منه "هارون الرّشيد"، ومن هنا كانت مأساته، من خلال أنّه الإمام الّذي وقف عند كلمته وتحدّى موقعه، ومن الطبيعي أنّ التّحدّي قد ينتج الكثير من المآسي، ولكن يبقى الحقّ هناك في كلمةٍ قالها لبعض أصحابه: "...اتّقِ الله وقل الحقّ وإن كان فيه هلاكك، فإنَّ فيه نجاتك، اتّقِ الله ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك، فإنَّ فيه هلاكك"(11)، لأنَّ قصَّة النَّجاة والهلاك لا تقاس في ذاتك، ولكنَّها تقاس بالنّتائج الكبرى التي تتحرَّك في مدى رسالتك، وفي مدى أهدافك، وفي مدى المصير في الدّنيا والآخرة.

وختاماً ، لا تشغلوا أنفسكم فقط بالدّموع عندما تعيشون ذكرى الأئمَّة(ع)، وإن كان للدّموع دور، لأنَّها تغسل القلب وتنمّي الحبّ، ولكنّ الأئمّة من أهل البيت(ع) انطلقوا مع المأساة وهم يبتسمون، لأنهم كانوا يعيشون الفرح اليوميّ بإيمانهم وإسلامهم.

لذلك، لا تصوّرهم أناساً يسقطون أمام المأساة، فلقد كانوا أكبر من المأساة، وقد جسّد ذلك الإمام الحسين(ع) عندما كان يتلقَّى دم ولده الرضيع وهو يقول بفرح: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله."(12)، وقد قال الشّاعر على لسانه:

تركت الخلق طرّاً في هواك وأيتمت العيال لكي أراك

فلو قطّعتني بالحبّ إرباً لما مال الفؤاد إلى سواك

فعندما يكون الإنسان مع ربّه في معنى الحبّ الإلهيّ، فإنَّه لا يعيش الإحساس بالألم، بل يحسّ بفرح الألم، لأنّه في سبيل الله.

الهوامش:

(1) تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني، ص 413.

(2)فقه السنّة، الشيخ سيّد سابق، ج 2، ص 611.

(3) في ظلال نهج البلاغة، ج4، ص310.

(4) ميزان الحكمة، محمد الرّيشهري، ج 4، ص 2837.

(5)تحف العقول، ص 413.

(6) نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 77.

(7)بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 1، ص 137.

(8) الكافي، ج 2، ص 454.

(9)الصوارم المهرقة، الشّهيد نور الله التستري، ص 96.

(10)نهج البلاغة، ج 4، ص 19.

(11) بحار الأنوار، ج 75، ص 319.

(12) المصدر نفسه، ج 45، ص 47.

موقع بينات

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 10 إبريل 2018 - 09:58 بتوقيت مكة