الرَّايةُ والأمير: التكفيّريونَ و"إسرائيل"

الأربعاء 27 ديسمبر 2017 - 21:01 بتوقيت مكة
الرَّايةُ والأمير: التكفيّريونَ و"إسرائيل"

مقالات_الكوثر: في خضمِّ الانفجار التكفيريّ في المنطقة، من أفغانستان إلى ليبيا إلى العراق فسوريا ومصر، كان ثَمَّةَ سؤالٌ يُطرَحُ بإلحاح. ما هو الموقفُ الحقيقيّ للجماعات التكفيريّة من الصِّراع مع "إسرائيل"؟ وكيف يمكنُ تفسير قيام أشخاصٍ وجماعاتٍ باستهدافِ مدنيّين وعسكريّن مسلمين، والقيام بتفجيراتٍ انتحاريّةٍ وسط المدنيّين، فيما لا يبعد الجنديّ الصهيونيّ عنهم سِوى بضع خطوات؟

والواقعُ أنَّ هذا الأمر ليس بالجديد، فقد بدأت إرهاصاته في العراقِ منذُ عام 2003 مع دخولِ القوّات الأميركيّة إلى بغداد، عندما كانت تقومُ تلك الجماعات بأعمالٍ إرهابيّةٍ ضدَّ المدنيّين فيما المحتلّ الأميركيّ لا يبعدُ سوى خطواتٍ عن مركز الاستهداف.
ورغم أنَّ زعيم تنظيم القاعدة آنذاك «أسامة بن لادن» قد حدَّد الهدف بالأميركيّ، إلّا أنَّ ثَمَّةَ انزياحاتٌ حصلت في عمليّات «الجماعة» في العراق، بقيادةِ الزرقاوي أدّت إلى حصولِ تشوّهاتٍ كبيرةٍ في الحِراكِ الذي كان يسعى بن لادن لتحقيقهِ هناك.
تُشيرُ كلّ الوثائقِ المُتوفِرة المُتعلِّقة بابن لادن، إلى أنَّ الأخيرَ كان قد حدَّد للتنظيم خطوطه العريضة، وأنَّ الهدف ينبغي أنْ يكون الأميركيّ بشكلٍ أساس ومن يتعاون معه بشكلٍ فرعيّ، إلّا أنَّ استهداف المتعاون ينبغي أنْ يكون مِمَن يُحيك مع الأميركيّ علاقاتٍ مباشرة.
شخّص بن لادن الأميركيّينَ بوصفِهم عدوّاً مركزيّاً، ومحرِّكاً رئيسياً للأنظمةِ «العميلة»، وبالتالي فإنَّ سقوطه وهزيمته ستعني حتماً سقوط «أحجار الدومينو» المرتبطةِ به، واعتبر بن لادن أنَّ مجيءَ الأميركيّ إلى المنطقة يمثّل لحظةً وفرصةً تاريخيّةً ينبغي الاستفادة منها لتوجيهِ ضربةٍ قاضيةٍ لنفوذه.
لكنَّ الجماعات التفكيريّة و«السّاحة» العراقيّة لمْ تكن مسرحاً طيّعاً لـ"ابن لادن"، بعد أنْ استطاع الزرقاوي احتكارها بشكلٍ كبيرٍ، فارضاً «منطقه» في العمليّات، ومُؤسِّساً، ميداناً، لما يُعرف باستهدافِ «العدوّ القريب» كأولويّةٍ على استهداف «العدوّ البعيد»، بمعزلٍ عن التأسيس الشرعيّ الدينيّ لها بسبب عدم كفاءَة الزرقاوي بالأصل لهذه المهمّة ووقوعه تحت تأثير تعليمات «أبو محمّد المَقدسيّ» والتحشيدِ الإعلاميّ الأميركيّ تحديداً.
على أنَّ التأسيس لمقولة «العدوّ القريب والعدوّ البعيد» لم تكن مُكتمِلة الأركانِ النظريّة، وهي ليست من الوضوح «الشرعيّ»، بحيث يمكن التشخيص معها من هو العدوّ القريب ومن هو البعيد، وإلى أيّ مدى يمكن أنْ ينطبقَ مفهوم «العدو» على ما يتمّ تشخيصه؟!. ولذلك نجدُ أنَّ بن لادن، مثلاً، قد حاول أنْ ينأى بنفسهِ عن التأسيس «النظريّ» و«الشرعيّ» لهذه المقولة، واعتبر أنَّ قتل المدنيّينَ من «المخالفين» إنْ لمْ يكن مُحرَّماً شرعاً فإنهُ على الأقلِّ ليس من «السياسة الشرعيّة» في شيء. (المقصودُ من السياسةِ الشرعيّة حساب المصالح والمَفاسِد والأولويّات في القضية).
وعلى أيّ حال، فإنَّ عدوى استهداف المدنيّين تحت شعار «العدوّ القريب» انتقلت من العراق إلى سورية، ثمَّ إلى كلّ بقاعِ الأرضِ، حيث تتواجد هذه الجماعات، ولعلّ أكبر تشوّهاتها ما يحصل في ساحتين: الأولى في سيناء حيث تقوم هذه الجماعات باستهدافِ رجال الأمن المصريّين والمدنيّين، فيما يقفُ «الإسرائيليّ» على مرمى حجر، والثانية: في سورية وهناك بدت إستراتيجيّة «العدوّ القريب» أكثر تشوّهاً؛ لأنَّ من تصنّفهُ هذه الجماعات «بالعدوّ البعيد» (وأعني إسرائيل) غداً حليفاً داعماً، يقدّم لهم «الخدمات» العسكريّة واللّوجستيّة والطبّية خصوصاً جنوب سورية حيث الجولان المحتلّ.
لكنَّ السّؤالَ المطروح هنا يرتبطُ بالمسوِّغات «الشرعيّة» التي تقدّمها هذه الجماعات، لا سيّما وأنَّ المتعارَف عليه عنها، أنّها جماعاتٌ دينيّةٌ تربطُ نفسها بالنصِّ الدينيِّ بوصفه جامداً عصيّاً على التأويل، مسجوناً عند ظواهر النصِّ وحرفيّة المعنى، ما يُبعدهم عن كونهم حركات «براغماتية».
والواقع أنَّ هذه الجماعات أكثر براغماتيّة من أيّ طرفٍ آخر وإنَّ الفرقَ بينها وبين غيرها أنّها تسعى لإلباسِ هذه البراغماتيّة لباساً «شرعيّاً» مشوّهاً.
فعلى سبيلِ المثال، تقدّم هذه الجماعات تبريرها بعدمِ دعم حركات المقاوَمة الفلسطينيّة بأنّها حركاتٌ «مرتدّة»، وأنَّ ما تقومُ به ليس من الجهادِ في شيء، وإنّما دفاعاً عن «بدعةٍ» تُسمّى «ديمقراطية».
ولعلَّ ما قاله الشيخ طلعت زهران، أحد القياداتِ السلفيّةِ المصريّة، يُعدُّ الأكثر تعبيراً عن المساعي «لشرعنة» الموقف السلبيّ للتكفيريّين من القضيّة الفلسطينيّة، إذ اعتبر أنّه «لا يجوز نصرة أهل غزّة لأنّ لا قيادة شرعيّة لهم».
لقد سعى زهران لتأسيسِ هذا الموقف على بنيةٍ «شرعيّة» يطلقُ عليها اسم «الراية والأمير»، والتي تعني أنَّ «الجهاد» لا يكون إلّا تحت راية أميرٍ مُستجمعٍ «للشروطِ الشّرعيّة» في قضايا الإمامةِ الدينيّةِ والسّياسيّة معاً. فيتحصّل من هذا «التبرير»: الجهاد واجب (سواء أكان عينيّاً أم كفائيّاً) تحتَ رايةٍ شرعيّة، وحيث لا راية شرعيّة في فلسطين، فالقتالُ هناك محرَّم.
وإذا أُضيفَ إلى هذا «المبدأ»، مبدأ آخر يتعلّقُ بوجوب أولويّة قتال القريب بوصفه مرتدّاً، استناداً إلى حدثٍ تاريخيٍّ يرتبطُ بقيام الخليفة الأوّل أبي بكر الصديق بتقديمِ قتال «المرتدّين» و«مانعي الزكاة» على قتال «الصليبيّين» وغيرهم. فإنَّ النتيجةَ التي نخلصُ إليها: أنَّ قتال الفلسطينيّين يمثّل أولويّةً عند هذه الجماعاتِ كمقدّمةٍ «ضروريّةٍ» قبل قتال «إسرائيل».
على أنَّ هذه القاعدة، بغضِّ النظرِ عن مدى صحّتها «الشّرعيّة» وعدم صمودها أمام النقد، سوف تؤسّس (بل هي أسّست بالفعلِ) لتعميمِ النموذج اللّيبيّ والعراقيّ والسوريّ على مُجملِ الأراضي العربيّة والإسلاميّة. ونقصد بتعميمِ النموذج هو تحويلُ بلادِ العالم الإسلاميّ إلى مسرحٍ للفوضى والاقتتالِ والإرهاب، ليُطرحُ عندها السّؤال الآتي: أيّ مجتمعٍ سيبقى ليقاتلَ إسرائيل إذا ما انتشرت الفوضى في العالمين العربيّ والإسلامي؟!
أمام هذا المشهد، لا يبدو من الصعب تشخيص الجماعات التكفيريّة بوصفها حركاتٌ تسعى لتدميرِ البنى الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للعالمين العربيّ والإسلاميّ، ممّا يصبُّ في المصلحةِ الصهيو-أميركيّة. ولذلك، لا غرابة إنْ لمْ يرَ الإسرائيليّ في يومٍ من الأيّام في هذه الجماعات والحركات تهديداً مُباشراً أو غير مباشرٍ لمشروعهِ التوسّعيّ فضلاً عن التهديدِ لوجوده.
بقلم :محمد محمود مرتضى ( باحث وأكاديمي لبناني).

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأربعاء 27 ديسمبر 2017 - 20:45 بتوقيت مكة
المزيد