الدكتور طلال عتريسي
النقاش حول المشروع الاسلامي نقاش قديم يعود الى بدايات القرن العشرين مع انهيار الدولة العثمانية وسقوط الخلافة ومع تقدم الغرب واحتلاله معظم الدول العربية والاسلامية . منذ ذلك الوقت قدمت محاولات كثيرة حول ماهية المشروع الاسلامي، وحول مستقبل هذا المشروع وما هي مرتكزاته، وما هي علاقته بالتراث من جهة وبالغرب المتطور والمتقدم والمحتل من جهة ثانية. كانت الاجابات متفاوتة ومختلفة واحيانا" متناقضة في هذه المحاولات للاجابة عن ماهية المشروع الاسلامي بعد سقوط الخلافةوبعد الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين.
كانت السلفية احدى تلك الاجابات ،التي رأت في التمسك بالتراث مشروعا" اسلاميا" لحفظ الدين والهوية .كما كان التوفيق بين التراث (الدين) وبين منجزات الغرب اجابة أخرى عن هذا التحدي.في حين ذهب آخرون الى الاقتداء بالنموذج الغربي بديلا" للمشروع الاسلامي الذي سقط بسقوط الخلافة...
بقي النقاش حول المشروع الاسلامي نقاشا" نظريا" بين علماءومثقفين وادباء على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم الفكرية والايديولوجية.
ووقع هذا النقاش تحت تأثيرين: هزيمة الدولة العثمانية (المشروع الاسلامي) وغلبة النموذج الاوروبي (النموذج الغربي).اي ان مرتكز التفكير في المشروع الاسلامي لم يكن مستقلا" عن هذين المتغيرين .
وهذا يفسر لماذا انقسم اصحاب المشروع الاسلامي نفسه الى اتجاهين رئيسيين:
- اتجاه اسلمة المجتمع من خلال الدعوة (بعيدا" من السياسة المباشرة)بانتظار ان يستعيد هذا المجتمع انتماءه وهويته الاسلاميين بما يسمح بالانتقال الى المؤسسات والهيئات الاخرى بحيث يصبح الاسلام هو مرجعية الادارة والحكم.مع تمسك هذا الاتجاه باستعادة المشروع الاسلامي (الخلافة ).
- اتجاه دمج الاسلام بالتحديث الغربي.أي ان يأخذ المسلمون بأسباب التقدم الغربي من دون ان يتخلوا عن معتقدهم وعن ممارساتهم الدينية والاخلاقية.ومن هذا الاتجاه نشأت مقولات الثنائية بين التحديث والاصالة وين التراث والغرب وبين الهوية والانفتاح وسواها من مقولات تعبر عن هذا الاعجاب بالغرب وعن الرغبة في تقليده والاقتداء به.. من دون التخلي عن التراث (الدين)..
ومن المعلوم ان الاتجاه الاول لم يبق على حاله ،بل انقسم الى أكثر من اتجاه تصادمت في ما بينها. بين من يؤكد على الدمج بين الديني والسياسي،(الحاكمية) وبين من لا يرى اي مشروعية لهذا الدمج. كما ضم الاتجاه الثاني من اراد الذوبان "كليا" في الغرب المسيطر والمهيمن.. كانت كل هذه الاتجاهات تعتبر نفسها مشروعا"اسلاميا" (باستثناء من يريد تقليد الغرب تقليدا" تاما").
لكن على مستوى آخر كان المشروع الاسلامي هو في الوقت نفسه مشروع التباين التاريخي بين السنة والشيعة. بين نموذجي الخلافة والامامة.الا ان هذا التباين في الواقع لم يترك اي تأثير على "المشروع الاسلامي" قبل انتصار الثورة الاسلامية في ايران .فقد كانت الحركات الاسلامية لا تزال اسيرة التنظير لهذا المشروع .أي انها لم تكن في موضع الابتلاء بتقديم النموذج العملي التطبيقي للمشروع الاسلامي . فقد كانت الحركة الاسلامية إما في موقع التبشير والدعوة ونشر الكتب،وإما في موقع المعارضة السياسية، أوفي المنافي والسجون...أما النموذج السعودي فلم يكن موضع اعتراف من قبل مفكري الحركات الاسلامية ومنظريها باعتباره مشروعا اسلاميا"..
تحولات المشروع الاسلامي:
قبل انتصار الثورة الاسلامية في ايران كأول نموذج لمشروع اسلامي معاصر استطاع ان يصبح في الحكم ويؤسس دولة،كانت الرؤى الاسلامية لهذا المشروع تتراوح بين رؤية الاخوان المسلمين،وبين رؤى الاتجاهات التكفيرية والقطبية ، وبين رؤية الجماعات الاسلامية (في مصر)التي اعتبرت ان المشروع الاسلامي تنقصه الفريضه الغائبة(الجهاد) ضد الحاكم.(اغتيال السادات)
وعندما نقول قبل انتصار الثورة في ايران فالمقصود بذلك ان الاسلاميين لم يشهدوا اي تجربة عملية لمشروع اسلامي ينقل افكارهم وتصوراتهم الى واقع الحكم والادارة وممارسة السلطة.طالما ان التجربة السعودية لم تكن تمثل بالنسبة الى المنظرين والمفكرين والحركيين الاسلاميين (السنة والشيعة) نموذجا" عمليا" لهذا المشروع .
أما بعد هذه الثورة ،فقد شهدنا تجارب عدة لمشاريع اسلامية، وليس لمشروع اسلامي واحد. وهذا هو جوهر التحدي الذي واجهه وسيواجهه المشروع الاسلامي المعاصر في المستقبل.بحيث تكون الاشكالية المطروحة :هل الاصل هو تعدد المشاريع ام الاصل هو المشروع الواحد؟
ان ما تغير بعد الثورة في ايران وبعد الثورات العربية هو الانتقال من النظريات الى التجربة. من نظريات السلطة الى تجارب الحكم: في افغانستان ،وفي السودان،وفي الجزائر ،وفي تركيا وفي مصر وفي تونس بالاضافة الى تجربة القاعدة وتنظيماتها المختلفة ومشروعها الاسلامي ايضا" (ونستثني تجربة حماس في فلسطين بسبب الاحتلال).
لا يمكن تناول كل واحدة من هذه التجارب بالتفصيل .لكن ما يمكن استنتاجه من هذه التجارب هو الاختلاف في ما بينها اولا"على مستوى النموذج الذي ارادت ان تقدمه للحكم.
وعلى مستوى الظروف التي احاطت بها سواء من حيث القدرات او من حيث التآمر عليها، أو الاخطاء التي ارتكبت، أو من حيث الاقتتال الداخلي.. ولا يعني اختلاف الظروف او القدرات ان المشروع كان واحدا". فالتجربة التركية على سبيل المثال هي تجربة الحركة الاسلامية التي تحكم تحت ظلال العلمانية ولا تستطيع ان تقفز فوقها او ان تتجاوزها.وهي نموذج خاص من غير المعلوم اذا كان من الممكن تطبيقه او استعارته في بلد آخر. في حين ان تجربة ايران كمثال مقابل هي تجربة الحاكمية الدينية التي لا تجرؤ العلمانية ولا الاتجاهات الفكرية الاخرى على اختراقها او تحديها أوتهديدها.
وفي افغانستان كانت التجربة خاصة ايضا" على مستوى الامير الحاكم (الملا عمر) وعلى مستوى التشدد في تطبيق الشريعة، وعلى مستوى ادارة البلاد ومجلس الشورى وسوى ذلك من هيئات تشريعية وقضائية ومحاكم.ولم يكن لهذا النموذج اي اثر، ولم يتكرر في التجربة السودانية التي لم تعمر طويلا" فدب الخلاف بين طرفيها المتحالفين (البشير والترابي)، ولا في اي من التجارب الاسلامية الاخرى في الحكم بعد الثورات العربية من مصر الى تونس...
أما القاعدة، فعلى الرغم من انها لم تستلم حكما" بشكل رسمي ،فإن بعض المناطق التي سيطرت عليها في سوريا وجعلتها امارات اسلامية ونصبت عليها أميرا" فقد كانت بدورها تجربة خاصة لا من حيث ظروفها فقط بل من حيث حجم التشدد من جهة وسهولة التكفير من جهة اخرى.وقد كان لزاما" على التنظيمات الاسلامية المتقاتلة (داعش والنصرة) تكفير بعضها البعض لتطمئن الى مشروعية القتل المتبادل ..
من هنا يمكننا القول أن هذا الاختلاف في التجربة يطرح أمرين آخرين اساسيين:
- الاول هو طبيعة السلطة التي يطمح اليها المشروع الاسلامي،ويطمح الى استعادتها (الخلافة على سبيل المثال)
- الثاني هو النموذج المعاصر الذي يريد ان يقدمه النموذج الاسلامي في الحكم.
فإذا كانت هذه السلطة هي الخلافة كما تؤكد على ذلك ادبيات الحركة الاسلامية السنية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه على المستوى النظري: أولا، هو كيف نستعيد هذه الخلافة وبأي صيغة؟ دولة واحدة تفرض على الآخرين الالتحاق بها ومبايعة خليفتها او أميرها؟ أم مجموعة دول تتمتع باستقلال خاص؟، أو فدرالية اسلامية ، أو ولايات متحدة اسلامية أو غير ذلك؟ وماذا نفعل مع من يرفض الالتحاق بهذه الدولة او يرفض المبايعة؟ هل يخضع الامر للاستفتاء الشعبي كما حصل مع مشروع الانضمام الى الوحدة الاوروبية؟ وماذا بالنسبة الى الدولة او الدول التي ترفض مثل هذه الوحدة؟ هل ترغم على المبايعة "قسرا" وبالقوة؟ أم تترك لتختار ما تشاء؟
لم تقدم الادبيات التنظيرية للمشروع الاسلامي مثل هذه الاجابات بشكل واضح.. في حين ان التجربة التاريخية قدمت لنا نموذجا"مختلفا" عن تعدد الخلفاء في الزمن الواحد."فقد دعا العباسيون لدولتهم مع قيام الدولة الأموية، ومن قبلهم خرج الأمويون على الإمام علي بن أبي طالب (ع) ولم يسلموا بخلافته وحاربوه حتى قتل، ولم يسلم عبد الله بن الزبير بالخلافة للأمويين وتسمى باسم الخليفة ودارت بينهم الحروب، واستمر الخروج على مدار تاريخ الإسلام فكان في الشرق في بغداد خلافة عباسية وفي الغرب في الأندلس خلافة أموية،ودام ذلك قرونا،وظهر في تلك الأثناء وبعدها دول كثيرة متزامنة ومتتابعة في الشرق والغرب كالدولة الإخشيدية والطولونية والأيوبية ودولة الموحدين والمماليك والعثمانيين، واجتمع في الأندلس في زمن واحد ستة يسمي كل منهم نفسه خليفة المسلمين..." .
أما المستوى الثاني فيتعلق بنموذج ادارة السلطة،أي هيكليتها والعلاقات بين مؤسساتها.لقد قدمت التجربة الايرانية نموذجا" لادارة السلطة من خلال حاكمية ولاية الفقيه من جهة، والمؤسسات الاخرى على الطريقة الغربية من جهة اخرى.(الانتخابات، رئاسة الجمهورية، مجلس الشورى...). أي ان التجربة الايرانية قدمت عمليا" مشروعا" اسلاميا" يستند نظريا" الى مرجعية دينية (ولاية الفقيه) ويستند عمليا" في بناءالمؤسسات وفي ادارتها وفي العلاقات فيما بينها الى التجربة الغربية..في حين ان التجارب السنية التي حصلت في بلدان مختلفة وعلى الرغم من كل الظروف الصعبة التي مرت بها ،ومن عدم اكتمال معظم هذه التجارب ..الا ان ذلك لا يعني ان الرؤية لكيفية تطبيق المشروع الاسلامي وتحويله الى سلطة ومؤسسات كانت واضحة ،أو كانت موحدة.
ربما لم يواجه الشيعة مثل هذا الاختلاف والتنوع. لانهم لم يعرفوا الا تجربة اسلامية واحدة معاصرة هي التجربة الايرانية (التجربة العراقية ليست تجربة اسلامية في الحكم) علما" بأن فقهاء الشيعة يختلفون ايضا" حول مشروعية التلازم بين الديني والسياسي،وحول ولاية الفقيه،وحول حدود هذه الولاية.. وكذلك حول مشروعية أوضرورة إقامة الحكم الاسلامي في عصر الغيبة.. في حين ان التجارب السنية انقسمت الى قسمين بعضها لم يقدم اي تصور واضح لا على المستوى النظري ولا حتى على المستوى العملي عن مرجعية الحكم الاسلامي الذي سيمارسه.. لا بل انخرط هذا الاتجاه في مؤسسات السلطة وبناها وأوالياتها ومرجعياتها الغربية الموجودة من النظام السابق (تجارب السودان ومصر وتونس بعد الثورات..).
أما القسم الآخر فذهب الى رفض كل النظم الغربية وأسسها (الانتخابات،الديمقراطية...) واعتمد المرجعية الاسلامية التاريخية (الامير ،المبايعة ...) .أي أننا لسنا امام نموذج واحد لادارة السلطة في المشروع الاسلامي..
ينطبق ما تقدم من تباين في ادارة السلطة على التباين في تقدير اولويات الامة . فنحن نشهد اليوم تباينا" واضحا" حول تلك الاولويات. بين من يرى في مواجهة المشروع الغربي (الاميركي الصهيوني) أولوية على سبيل المثال ،وبين من يرى قتال العدو القريب (من المسلمين) أولوية...أو بين من يرى تلك الاولوية في التمكن من السلطة قبل اي أمر آخر ...
ان اشكالية المشروع الاسلامي في خلاصة هذه الورقة تكمن في غياب وحدة التعريف وفي تعدد نماذج التطبيق.وقد يشبه الامر مشاريع اخرى مثل الماركسية والديمقراطة التي قدمت بدورها اختلافات متعددة بين البلدان التي طبقتها او لجأت اليها.
لقد اختلف المسلمون منذ وفاة الرسول (ص) على طبيعة الحكم (المشروع الاسلامي) بعد غيابه. وليس مفاجئا" ان يستمروا في هذا الاختلاف الى اليوم. فكيف اذا أضفنا الى هذا الاختلاف ما قدمته البشرية طوال القرون الماضية من تجارب وخبرات ومؤسسات في الحكم والادارة، كان لها بكل تأكيد تأثيرات واضحة على تفكير المسلمين وعلى نظرتهم الى ادارة مجتمعاتهم وحكوماتهم، والى المشروع الذي يتطلعون اليه...