فقه المزار في أحاديث الأئمة الأطهار(عليهم السلام) (القسم الأول)

الجمعة 10 نوفمبر 2017 - 14:16 بتوقيت مكة
فقه المزار في أحاديث الأئمة الأطهار(عليهم السلام) (القسم الأول)

فقد وقفت على كُتيّب باسم: "فقه المزار عند الأئمة الأطهار(عليهم السلام)"، قد تقنّع مؤلّفه باسم مستعار هو "عبدالهادي الحسيني"، كما تقنّع ناشروه باسم كاذب وقالوا: نشر مركز إحياء تراث آل البيت، فلا المؤلف شيعي يوالي أهل البيت، ولا الناشر يسعى لإحياء تراثهم(عليهم السلام)

آية الله جعفر السبحاني

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وجعلهم النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أعدالَ الكتاب وقرناءَه، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم):"إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً"، فأُنيطت بهما سعادة المسلمين وهدايتهم في الدنيا والآخرة. أمّا بعد:

فقد وقفت على كُتيّب باسم: "فقه المزار عند الأئمة(عليهم السلام)"، قد تقنّع مؤلّفه باسم مستعار هو "عبدالهادي الحسيني"، كما تقنّع ناشروه باسم كاذب وقالوا: نشر مركز إحياء تراث آل البيت، فلا المؤلف شيعي يوالي أهل البيت، ولا الناشر يسعى لإحياء تراثهم(عليهم السلام)، وإنّما قامت بإصدار هذا الكتيب مجموعة من الحاقدين الذين خلت قلوبهم عن المودة لأهل القربى لو لم نقل امتلأت بالنصب البغيض لهم.

وقد حاول الكاتب عرض أفكار الوهابية ودعمها بروايات أهل البيت(عليهم السلام) دون أن يعرف أهل البيت(عليهم السلام) وآراءهم وأخبارهم وما تَعنيه رواياتهم، فقد نظر إلى الروايات نظرة سطحية برأي مسبق فخرج بنتائج لا تعدو ما قاله محمد بن عبدالوهاب ومِنْ قبله ابن تيمية.

ثم إنّ علماء المسلمين من لدن ظهور الضلال في أوائل القرن الثامن ردّوا على تلك الأفكار الساقطة التي لا تهدف إلاّ إلى الحط من مقامات الأنبياء والأولياء أوّلاً، وهدم كل أثر ديني بقي من عصر الرسالة إلى يومنا هذا تحت شعار التوحيد ثانياً. ولذلك قمنا بنقد هذه الرسالة نقداً موضوعياً بنّاءً نهدف من ورائه بيان الحقيقة وإتمام الحجة على الكاتب ومن على رأيه. وستكون دراستنا للموضوع ضمن الفصول التالية:

1 -  زيارة القبور وآثارها البنّاءة في الكتاب والسنّة.

2 - صيانة مراقد الأنبياء والأئمة.

3 -  حجج المؤلف وذرائعه.

4 - بناء المساجد جنب المشاهد.

5 -  البكاء على الميّت وإقامة العزاء عليه.

6 -  خاتمة المطاف: تضخيم بعض الممارسات.

وسوف نركز في هذه الفصول ـ غالباً ـ على ما روي عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) حتّى يتبيّن أنّ الأخبار الواردة عنهم تتضاد تماماً مع ما عليه الوهابية في كافة المجالات.

قال الله تعالى:{قُلْ هِذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلى اللهِ عَلى بَصِيرة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبْحانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكين}(1) والله من وراء القصد .

الفصل الأوّل

زيارة القبور وآثارها البنّاءة في الكتاب والسنة

الزيارة ـ لغة ـ بمعنى القصد، فقد جاء في "المصباح المنير": زاره، يزوره، زيارة، وزوراً: قصده، فهو زائر.(2) والمزار يكون مصدراً، أو موضع الزيارة، والزيارة في العرف قصد المزور إكراماً له واستئناساً به.

وربّما تطلق الزيارة في ألسن العامة على ما يقرأه الزائر أو يتكلم به مادحاً المزور وواصفاً له ومسلِّماً عليه، إلى غير ذلك من الكلمات والجمل الواردة في زيارة الأولياء وغيرهم.

إنّ صلة الإنسان بآبائه وأجداده وأرحامه وأصدقائه في حياتهم أمر واضح، وعندما يفترق عنهم مدة معينة يجد في نفسه شوقاً لزيارتهم والحضور عندهم والاستئناس بهم، ولذلك أمرنا الله سبحانه بصلة الأرحام وحرّم قطع الرحم، وكأنّه بإيجابه هذه الصلة أكد ما عليه الإنسان صاحب الفطرة السليمة.

ثم إذا مات هؤلاء ودفنوا في مقابرهم لا يرضى الإنسان أن تنقطع صلته بهم ويجد في نفسه دافعاً إلى زيارة قبورهم، ولذا تراه يقوم بتعميرها وصيانتها حفاظاً عليها من الاندراس، كل ذلك نابع عن فطرة خلق الإنسان عليها. فلو دل دليل على كراهة تجديد القبر، فلأجل عنوان ثانويّ وهو طروء الضيق على الناس في الأراضي التي تخصص لدفن الأموات.

ومن الواضح أنّ الدين الإسلامي لا يتعارض مع مقتضيات الفطرة، بل أنّه يضع أحكامه على وفقها، ولذا أمر بالعدل والإحسان ونهى عن خلافهما، وهكذا سائر الأحكام الأساسية الواردة في الكتاب والسنة، والتي لا تتغير بمرور الزمان وتبقى سائدة ما دام للإنسان وجود على الأرض وشريعة الإسلام حاكمة، قال سبحانه:"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.(3)

الآثار الإيجابية للزيارة

حينما يطل الإنسان بنظره على وادي الصمت (المقابر) يرى عن كثب وادياً يضم أجساد الفقراء والأغنياء والصغار والكبار جنباً إلى جنب ، يراهم قد باتوا في سبات عميق وصمت مخيف، قد سلبت عنهم قُدَراتهم وأموالهم، وما سخروه من الخدم، ولم يأخذوا معهم إلاّ الكفن .وهذه النظرة تدهش الإنسان وتدفعه إلى التفكير في مستقبله ومصيره، وربّما يحدّث نفسه بأنّ حياة هذه عاقبتها، وأياماً هذه نهايتها لا تستحق الحرص على جمعه للأموال، والاستيلاء على المناصب والمقامات، خصوصاً فيما لو كان الزائر موحّداً مصدِّقاً بالمعاد، وأنّه سوف يحاسب بعد موته على أعماله وأفعاله وما اكتنز من الكنوز واقتنى من الأموال وتقلّد من مناصب، فهل كان ذلك عن طريق مشروع دون أن يكون فيه هضم للحقوق وتجاوز على الأعراض والنفوس؟

هذا هو الأثر التربوي لزيارة القبور على الإطلاق سواء أكان القبر للأنبياء والأولياء أم للأرحام والأصدقاء، أم لم يكن واحداً منهم، وإلى هذا الأثر التربوي يشير الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)في الحديث المروي عنه: "زوروا القبور فإنّها تُذكّركم الآخرة")4)

وفي حديث آخر قال (صلى الله عليه وآله وسلم):"نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّ لكم فيها عبرة.")5)

وقد استفاد أهل البيت(عليهم السلام)من التذكير بالقبور وما يؤول إليه أصحابها، في الوعظ والتربية حتى مع طواغيت عصرهم وهم في قمة حالات الزهو والبطر والتمادي، وهذا ما نلاحظه جليّاً في الأبيات التي أنشدها الإمام الهادي(عليه السلام) للمتوكل العباسي، وهو من أعتى طواغيت بني العباس وأشدّهم حقداً على أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

روى المسعودي بأنّه سُعيّ إلى المتوكل بالإمام علي الهادي (عليه السلام) وقيل له:" إنّ في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته، فوجّه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممّن في داره، فوجده في بيت وحده مغلّق عليه وعليه مدرعة من شعر، ولا بساط في البيت إلاّ الرمل والحصى، وعلى رأسه ملحفة من الصوف، متوجّهاً إلى ربّه يترنّم بآيات من القرآن، في الوعد والوعيد، فأُخذ على ما وجد عليه وحمل إلى المتوكّل في جوف اللّيل، فَمَثُل بين يديه والمتوكّل يشرب وفي يده كأس، فلمّا
رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل فيه، ولا حالة يتعلّل عليه بها، فناوله المتوكّل الكأس الّذي في يده، فقال (عليه السلام)له:
"ما خامر لحمي ودمي قطّ فاعفني منه"فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً استحسنه، فقال (عليه السلام): "إنّي لقليل الرواية للأشعار." فقال: لابدّ أن تنشدني فأنشده (عليه السلام) :

باتُوا على قُلَلِ الأجبال تَحْرِسُهُمْ *** غُلْبُ الرجالِ فَما أغنتهم الْقُلَلُ

وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عن مَعاقِلِهم *** فأُودِعُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزَلُوا

ناداهُمُ صارِخٌ مِنْ بَعدِ ما قُبرُوا *** أيْنَ الأسرّةُ والتيجان والحُلَلُ

أين الوجوه الّتي كانت مُنَعَّمَةً *** مِنْ دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكِللُ

فأفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حينَ ساءَلَهُمْ *** تِلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْها الدُّودُ يقْتَتِلُ

قَدْ طالَ ما أكَلُوا دَهراً وما شَرِبُوا *** فأصبَحُوا بعدَ طولِ الأكلِ قَد أُكِلُوا

وَطالَ ما عَمّرُوا دُوراً لِتُحْصِنَهُمْ *** فَفارَقُوا الدُّورَ والأهليَن وانتقَلُوا

وَطالَ ما كَنزُوا الأموالَ وادَّخَرَوا *** فخلَّفُوها على الأعداء وارْتَحَلُوا

أضْحَتْ مَنازلُهُمْ قَفْراً مُعَطَّلَةً *** وساكِنُوها إلى الأجداثِ قَدْ رَحَلُوا(6)

زيارة مراقد العلماء والشهداء

ما ذكرناه من الأثر التربويّ هو نتيجة لزيارة قبور عامة الناس، حيث إنّها تورث العبرة، وتذكّر بالآخرة، وتحطُّ من الأطماع، وتقلّل من تعلّق الإنسان بالدنيا وما فيها.

وأمّا زيارة مراقد العلماء فلها وراء ذلك شأن آخر، حيث إنّها تهدف إلى تكريم العلم وتعظيمه، وبالتالي تحث الجيل الناشئ لتحصيل العلم، حيث يرى بأُمِّ عينيه تكريم العلماء أحياءً وأمواتاً .

كما أنّ لزيارة مراقد الشهداء ـ الذين ذبّوا بدمائهم عن دينهم وشريعتهم المقدسة ـ أثراً آخر وراء العبرة والاعتبار، وذلك لأنّ الحضور عند مراقدهم بمنزلة عقد ميثاق وتعهّد من الحاضرين في مواصلة الخط الّذي ساروا عليه، وهو خط الانتصار الحقيقي والسبيل الإلهي لتحقيق الأهداف السامية. قال سيد قطب في تفسيره لقوله تعالى:{إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلنا وَالَّذينَ آمَنُوا في الْحَياةِ الدُّنْيا}: والناس يقصرون معنى النصر على صورة معيّنة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى. وقد يتلبّس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة... إبراهيم(عليه السلام) وهو يُلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها، أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك ـ في منطق العقيدة ـ أنّه كان في قمة النصر وهو يُلقى في النار، كما أنّه انتصر مرة أُخرى وهو ينجو من النار.

هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد، فأمّا في الحقيقة فهما قريب من قريب.(7)!!!

ولإيضاح الحال نأتي بمثال: أنّ الفقهاء أفتوا باستحباب استلام الحجر الأسود عند الطواف، وعندئذ يسأل الحاج عن سرّ هذا العمل، وما هي الفائدة من وضع اليد على الحجر واستلامه؟ إلاّ أنّه لو تأمّل في تاريخ بناء البيت الحرام يجد أنّ إبراهيم الخليل(عليه السلام) قد تولى إعادة بناء بيت الله الحرام بعد طوفان نوح(عليه السلام)، وبأمر من الله عز وجل وضع الحجر الأسود ـ الذي كان جزءاً من جبل أبي قبيس ـ داخل حائطه.

ثمّ إنّ وضع اليد على الحجر هو نوع من أنواع التعاهد مع بطل التوحيد(عليه السلام)ونبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يحارب كل نوع من أنواع الشرك والوثنية، وأن لا ينحرف عن التوحيد في جميع مراحل حياته.

ولذا فإنّ الهدف من استلامنا الحجر الأسود هو أن نبايع الله والأنبياء على الثبات على التوحيد، وقد ورد أنّ ذلك من مستحبات الطواف، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام أنّه قال: "ضع يدك على الحجر وقل: أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة. (8)

وينقل الشيخ الصدوق عن ابن عباس(رحمه الله) أنّه قال: "واستلامه اليوم بيعة لمن لم يدرك بيعة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ." (9)

ومن ذلك نستنتج أنّ استلام الحجر تجسيد عملي لمعاهدة قلبية مركزها روح الإنسان وداخله، وفي الحقيقة أنّ زائر بيت الله الحرام بهذا العمل يعكس عملياً تلك المعاهدة القلبية بشكل ملموس محسوس. وما ذكرناه من حكمة لهذا العمل هي ذات السبب للحضور عند مراقد شهداء بدر وأُحد وكربلاء، وغيرها، فإنّ الزائر بحضوره لديهم وبوضع يده على مراقدهم، كأنّه يعقد ميثاقاً مع أرواحهم في مواصلة الأهداف التي لأجلها ضحّوا بدمائهم، وقتلوا في سبيلها، فإنّ زيارة قبور الشهداء تكريم وتعظيم لهم ونوع تعهد في مواصلة أهدافهم.

كما أنّ من الجدير ذكره أنّ كثيراً من السلفيين ربّما يعتذرون عن استلام الحجر بما أُثر عن الخليفة الثاني من أنّ تقبيله له لأجل أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قبّله، ولولا تقبيله لما فعل، ولكنّه غفل عن سرّ تقبيل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أُشير إليه في الحديث التالي:

روى عبدالرحمن بن كثير الهاشمي، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: "مرّ عمر بن الخطاب على الحجر الأسود فقال: والله يا حجر إنّا لنعلم أنّك حجر لا تضر ولا تنفع، إلاّ أنّا رأينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يحبّك فنحن نحبّك. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف يابن الخطاب، فوالله ليبعثنه الله يوم القيامة وله لسان وشفتان، فيشهد لمن وافاه، وهو يمين الله عزوجل في أرضه يبايع بها خلقه. فقال عمر: لا أبقانا الله في بلد لا يكون فيه علي بن أبي طالب."(10)

الهوامش :

1 . يوسف: 108.
2 .المصباح المنير: 315، مادة «زور».
3. الروم: 30 .
4 . سنن ابن ماجة: 1 / 500، الحديث 1569 .
5.كنز العمال: 15/647، الحديث 42558.
6 . مروج الذهب: 4 / 11 .
7.في ظلال القرآن:7/189، تفسير الآية51 من سورة غافر.
8 . وسائل الشيعة: ج 10، الباب13 من أبواب الطواف، الحديث 17.
9 . علل الشرائع:427، الحديث 10.
10 . علل الشرائع: 426، الحديث 8 ; وسائل الشيعة: ج 10، الباب 12 من أبواب الطواف، الحديث 13 .

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الجمعة 10 نوفمبر 2017 - 14:14 بتوقيت مكة
المزيد