الوحدة الوطنية قناع لتكوين عبدة الطاغوت (5)

الثلاثاء 31 أكتوبر 2017 - 08:15 بتوقيت مكة
الوحدة الوطنية قناع لتكوين عبدة الطاغوت (5)

مقالات - الكوثر

بقلم آية الله المجاهد الشيخ نمر باقر النمر

«خامساً» البصيرة القرآنية لوحدة الأرحام

إن التشريع الإسلامي أولى العلاقات الرحمية أهمية قصوى، وشرَّع منظومة متكاملة من الأحكام والنظم؛ لتوثيق العلاقة الرحمية؛ وما أحكام الإرث إلا غيض من فيض الأحكام المتعلقة بتوثيق العلاقة الرحمية التي بلغت في علو درجاتها أن تكون لها الأولية على المهاجرين والأنصار؛ مع ما للمهاجرين والأنصار من مكانة سامية، ودرجات عالية في تشييد صرح الإسلام، وقيم الرسالة، ومبادئ السماء؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}.

وأوجب التشريع الإسلامي صلة الرحم، وربط رحمة الله بصلة الرحم، وحرَّم قطيعة الرحم، وجعل قطيعة الرحم من الكبائر، ونقضاً لعهد الله الذي استوثقه على العباد؛ كما جعل صفة العقلاء الوفاء بعهد الله، وعدم نقضهم لميثاق صلة الرحم؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.

ويقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}.

ولكن مع كل هذه الأهمية التي أولاها التشريع الإسلامي للعلاقة الرحمية، تبقى شرعية هذه العلاقات في حدود العلاقات والروابط الإنسانية والسلوكية، ولا تصل إلى الوحدة الرحمية المشروعة إلا في حالة واحدة فقط وفقط، وهي الوحدة الرحمية التي تنطلق من مظلة العقيدة الإسلامية، لتصل إلى وحدة الأمة الإسلامية، ومن أجل تمتينها وتصليبها، كما هي وحدة الأنصار وكذلك وحدة المهاجرين؛ ولا يجوز أن تكون وحدة الرحم في مقابل وحدة الأمة الإسلامية أو ما ينافيها.

ولذلك لا تجوز الوحدة الرحمية في غير هذه الحالة؛ لافتقارها إلى التقوى والاعتصام بحبل الله؛ ولذلك أعطى التشريع الإسلامي، بل أوجب على الأولاد الاستقلال الفكري، ولم يجز لأحد بطاعة أحد في فكر الضلال، ولو كان أباً أو أماً فضلاً عما هم دون الأبوين من الأرحام؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

نعم يجب عليه أن يحافظ على حسن العلاقة والمعاملة، ومعروف الصحبة. فهو مستقل في فكره وتفكيره؛ ولكن يجب عليه الصحبة بالمعروف. وخلاصة العلاقة الرحمية هي الاستقلال في الفكر، والمعروف في الصحبة؛ ولكنها لا تصل إلى الوحدة الرحمية إلا كعتبة في سلَّم الأمة الإسلامية، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

من الطبيعي أن يحب الإنسان أهله ورحمه وعشيرته؛ لأنه مفطور على الحب، وبالأخص حب الأرحام؛ ولكن لا يجوز أبدا أن يكون حب الأرحام مانعاً، أو حائلاً بين الإنسان وبين القيم الرسالية؛ ومن الطبيعي أن يدافع الإنسان عن عشيرته، بل خير الناس مَنْ يدافع عن عشيرته؛ ولكن لا يجوز له أن يرتكب ظلماً أو إثماً دفاعاً عن عشيرته. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم» وسئل: ما العصبية؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أن تعين قومك على الظلم».

إن التشريع الإسلامي نهي وحرَّم تحريماً مغلظاً تقديم علاقة الرحم على علاقة القيم الرسالية، والمبادئ السماوية؛ فمتى ما تعارضت العلاقتان وجب تقديم علاقة العقيدة على علاقة الرحم والمال والمهنة والأرض مجتمعة.

بل يجب قطع علاقة الولاية مع الرحم إذا استحب الرحمُ فكرَ الضلال والكفر على فكر الهدى والإيمان، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.

إن الذين يقيمون علاقة ولاية مع مَنْ غضب الله عليهم كالطغاة؛ وهم أبرز أفراد المغضوب عليهم؛ ينفصلون حقيقة عن الفئة الرسالية، والمجتمع الإيماني، وعن أرحامهم المؤمنين؛ لأنهم تنكروا لثقافة الرسالة، ومبادئ السماء التي توجب تجنب الطاغوت، والكفر به؛ وهم مع ذلك الخروج من حظيرة المؤمنين إلا أنهم ليسوا بجزء من كيان الطاغي؛ لأن الطاغي لا يريدهم، ولا يعترف بهم؛ لأنه لا يثق بهم، ولا يطمئن لهم، وإنما يستخدمهم كأدوات لشق الصف الرسالي، وتمزيق الجماعة المجاهدة بعد أن جردهم من لباس التقوى والرسالة والجهاد؛ ولذلك يقبعون في دائرة الخداع، وزوبعة النفاق، فلا هم من المؤمنين، ولا هم من الطغاة؛ ولذلك يتصفون بالكذب، والتمظهر بسلوكيات المؤمنين، ويتصورون أنهم بعلاقتهم مع الطاغوت، وخداعهم للناس بالأيمان الكاذبة، والتمظهر بالإيمان؛ أنهم يملكون المنهج الذي يُصْلِح المجتمع؛ ولكن الحقيقة أنهم هم الكاذبون.

ولقد استحواذ الشيطان على فكرهم، وسيطر على سلوكهم، وهيمن على حياتهم؛ ولذلك ينسون ويتناسون قيم الرسالة، ومبادئ السماء، وينتهي بهم المطاف إلى الانتماء إلى حزب الشيطان؛ لأنهم يجهلون السُّنَّة والمعادلة الإلهية التي تُركس الطغاة، ومَنْ يعادي قيم السماء، وقيادة الرسالة في قعر الأذلين، وأن الغلبة لقيم السماء، وقيادة الرسالة؛ ولذلك لن تجد قوماً مؤمنين بسنَّة الله، وقيم السماء، يحب أحداً ممَّنْ يعادي قيم السماء، وقيادة الرسالة، ولو كان المعادي آباءهم أو أبناءهم أو أخوانهم أو عشيرتهم؛ لأن الإيمان الراسخ في قلوبهم يَحُول بينهم وبين حب رحمهم المعادين لقيم الرسالة، وقيادة السماء؛ ولذلك لن تكون هناك وحدة رحم مشروعة في مقابل الرسالة، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِْيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

ولقد رفضت وأبطلت وذمت الشريعة الإسلامية التفاخر بالأنساب؛ وذلك لمحو الفروق المصطنعة بين أفراد الأمة الإسلامية، ولتوكيد التكافؤ في الدم والنسب، والتساوي في الحقوق والواجبات، ولصيانة الأخوة الإيمانية، ووحدة الأمة الإسلامية؛ لأن أبوة آدم وحواء جمعت أعقابهما كلهم في دثار واحد سواء، فلا يجوز لأحد أن يُفَضِّل أحداً على أحدٍ إلا بميزة تفضيل من التقوى والعلم والجهاد والسبق للخير يحرزها لنفسه بسعيه وجِدِّه؛ فمَنْ لا فضيلة له يمتاز بها بعمله وسعيه لم ولن تنفعه عشيرته ولا أسلافه ولو كانوا ملوك الآخرة . . . قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي: ألا إني جعلت نسباً، وجعلتم نسباً، فجعلتُ أكرمكم أتقاكم، فأبيتُم إلا أن تقولوا فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي، وأضع أنسابكم!» وهذا مستوحى ومُسْتنبَط من قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}.

وهذا المرض المقيت متكرس ومتجذر في الشعوب العربية التي ما فتئت تُحَكِّم العرق العشائري، والقوانين القبلية على القيم الرسالية، والأحكام الشرعية.

فالتقاليد والعادات العربية قائمة على الاستعلاء بالنسب، وبالخصوص في المجتمع القبلي؛ الذي قدس هذه العادات، وتلك التقاليد، ويقدمها ويجعلها حاكمة على وحي السماء، وقيم الرسالة، وتعاليم الإسلام، ولذلك ظلت المجتمعات العربية تعيش في سبات التخلف والتبعية والاستعباد للآخر؛ الذي تجاوز هذه السفاهة الجاهلية، والأمراض المعرفية، والجهالة السلوكية التي أحدثت الفتوقات الواسعة، وأصدعت الشقاقات الخطيرة في الماضي والحاضر، وما زالت.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 31 أكتوبر 2017 - 07:43 بتوقيت مكة