ثُمَّ جَمَعَ سُبْحانَهُ مِنْ حَزْنِ الْاءَرْضِ وَ سَهْلِها، وَ عَذْبِها وَ سَبَخِها، تُرْبَهً سَنَّها بِالْماءِ حَتّى خَلَصَتْ، وَ لا طَها بِالْبَلَّهِ حَتّى لَزُبَتْ، فَجَبَلَ مِنْها صُورَهً ذاتَ اءحْناءٍ وَ وُصُولٍ وَ اءعضاءٍ وَ فُصُولٍ. اءجْمَدَها حَتّى اسْتَمْسَكَتْ، وَ اءَصْلَدَها حَتّى صَلْصَلَتْ، لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ، وَ اءَجَلٍ مَعْلُومٍ.
ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِن رُوحِهِ فَمَثْلَتْ اِنْسانا ذا اءَذْهانٍ يُجِيلُها، وَ فِكْرٍ يَتَصَرَّفُ بِها، وَ جَوارِحِ يَخْتَدِمُها، وَ اءَدَواتٍ يُقَلَّبُها، وَ مَعْرِفَهٍ يَفْرُقُ بِها بَيْنَ الْحَقِّ وَالْباطِلِ وَالْاءَذْواقِ وَالْمَشامِّ وَالاَلْوانِ وَالْاءَجْناسِ، مَعْجُونا بِطِينَهِ الاَلْوانِ الْمُخْتَلِفَهِ، وَالْاءَشْباهِ الْمُؤ تَلِفَهِ، وَالاَضْدادِ الْمُتَعادِيَهِ وَالاَخْلاطِ الْمُتَبايِنَهِ، مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْبِلَّهِ وَالْجُمُودِ، وَالْمَساءَةِ وَالسُّرُورِ وَاسْتَاءْدَى اللّهُ سُبْحانَهُ الْمَلائِكَهَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ الَيْهِمْ، فِى الاَذْعانِ بِالسُّجودِ لَهُ وَالْخُشُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ.
فَقالَ سُبْحانَهُ: (اِسْجِدُوا لِآدَم فَسَجَدوا الا اِبْليسَ) اعْتَرَتْهُ الْحَمِيَّهُ وَ غَلَبَتْ عَلَيهِ الشِّقْوَهُ وَ تَعَزَّزَ بِخَلْقَهِ النّارِ، وَاسْتَوْهَنَ خَلْقَ الصَّلْصالِ، فَاءَعْطاهُ اللّ هُ النَّظَرَهَ اسْتِحْقاقا لِلسَّخْطَهِ وَاسْتِتْماما لِلْبَليَّهِ، وَانْجازا لِلْعِدَهِ، فَقالَ: (اِنَّكَ مَنَ الْمُنْظَرينَ الى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعلوُمِ).
ثُمَّ اءَسْكَنَ سُبْحانَهُ آدَمَ دارا اءَرْغَدَ فِيها عِيشَتَهُ، وَ آمَنَ فِيها مَحَلَّتَهُ، وَ حَذَّرَهُ ابْليسَ وَ عَداوَتَهُ، فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفاسَهً عَلَيْهِ بِدارِ الْمُقامِ وَ مُرافَقَهِ الاَبْرارِ، فَباعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَالْعَزِيمَهَ بِوَهْنِهِ. وَ اسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَ جَلاً، وَ بِالاَغْتِرارِ نَدَما، ثُمَّ بَسَطَ اللّ هُ سُبْحانَهُ لَهُ فِى تَوْبَتِهِ، وَ لَقّاهُ كَلِمَهَ رَحْمَتِهِ، وَ وَعَدَهُ الْمَردَّ اِلى جَنَّتِهِ. فَاءَهْبَطَهُ الى دارِ البَلِيَّهِ، وَ تَناسُلِ الذُّرِّيَّهِ.
وَ اصْطَفى سُبْحانَهُ مِنْ وَلَدِهِ اءَنْبِياءَ اءَخَذَ عَلَى الْوَحى مِيثاقَهُمْ، وَ عَلى تَبْليغِ الرِّسالَهِ اَمانَتَهُمْ، لَمّا بَدَّلَ اءَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللّهِ اِلَيْهِمْ فَجَهِلوا حَقَّهُ، وَ اتَّخِذوا الاَنْدادَ مَعَهُ، وَ اجْتَبالَتْهُمُ الشِّياطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبادَتِهِ، فَبَعثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ واتَرَ الَيْهِمْ اءَنْبياءَهُ لِيَسْتَاءْدُوهُمْ مِيْثاقَ فِطْرَتِهِ، وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِىَّ نِعْمَتِهِ، وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفائِنَ الْعُقُولِ وَ يُرُوهُمْ آياتِ الْمُقْدِرَهِ.
مِن سَقْفٍ فَوْقَهُم مَرْفُوعٍ، وَ مِهادٍ تَحْتَهُم مَوْضُوعٍ، وَ مَعايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَ آجالٍ تُفْنِيهمْ، وَ اءَوْصابٍ تُهْرِمُهُمْ، وَ اءَحْداثٍ تَتابَعُ عَلَيْهِمْ، وَ لَمْ يُخْلِ سُبْحانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِي مُرْسَلٍ، اءَوْ كِتابٍ مُنْزَلٍ، اءوْ حُجَّهٍ لازِمَهٍ، اءوْ مَحَجَّهٍ قائِمَهٍ، رُسُلُ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّهُ عَدَدِهِمْ، وَ لا كَثْرَهُ الْمُكَذَّبِينَ لَهُمْ، مِنْ سابِقٍ سُمِّىَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، اءَوْ غابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ.
عَلى ذلكَ نَسَلَتِ الْقُرونُ، وَ مَضَتِ الدُّهُورُ، وَ سَلَفَتِ الاَباءُ، وَ خَلَفَتِ الاَبْناءُ، الى اَنْ بَعثَ اللّهُ سُبْحانَهُ مُحَمَّدَا رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لاِنْجازِ عِدَتِهِ، وَ تَمامِ نُبُوَتِهِ، مَاءخُوذا عَلى النَّبيِّينَ مِيْثاقُهُ، مَشْهُورَهً سِماتُهُ، كَرِيما مِيلادُهُ. وَ اءَهْلُ الاَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَهٌ، وَ اءَهْواءٌ مُنَتِشرَهٌ وَ طَرائِقُ مُتشَتِّتَهٌ، بَيْنَ مُشْبِّهٍ لِلّهِ بِخَلْقِهِ، اءوْ مُلْحِدٍ فِى اسْمِهِ اءَوْ مُشِيرٍ الى غَيْرِهِ، فَهَداهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلالَهِ، وَ اءَنْقَذَهُمْ بِمَكانِهِ مِنَ الْجَهالَهِ.
ثُمَّ اخْتارَ سُبْحانَهُ لِمُحمَّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِقاءَهُ، وَ رَضِىَ لَهُ ما عِنْدَهُ وَ اءَكْرَمَهُ عَنْ دارِ الدُّنْيا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مُقارَنَهِ الْبَلْوى . فَقَبَضَهُ الَيْهِ كَريما صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ خَلَّفَ فِيكُمْ ما خَلَّفَتِ الاَنْبِياءُ فِى اُمَمِها اِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلا، بِغَيْرِ طَرِيق واضِحٍ، وَ لا عَلَمٍ قائِمٍ، كِتابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّنا حَلالَهُ وَ حَرامَهُ وَ فَرائِضَهُ وَ فَضائِلَهُ وَ ناسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ، وَ رُخَصَهُ وَ عَزائِمَهُ، وَ خاصَّهُ وَ عامَّهُ، وَ عِبَرَهُ وَ اَمْثالَهُ، وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ، وَ مَحْكَمَهُ وَ مُتَشابِهَهُ.
مُفَسِّرا مُجْمَلَهُ وَ مُبَيِّنا غَوامِضَهُ، بَيْنَ مَاءخُوذٍ ميثاقُ فِى عِلْمِهِ وَ مُوَسِّعٍ عَلَى الْعِبادِ فِى جَهْلِهِ، وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِى الْكِتابِ فَرْضُهُ، وَ مَعْلُومٍ فِى السُّنَّهِ نَسْخُهُ، وَ واجِبٍ فِى السُّنَّهِ اءخْذُهُ، وَ مُرَخَّصٍ فِى الْكِتابِ تَرْكُهُ، وَ بَيْنَ واجِبٍ ، وَ زائِلٍ فِى مُسْتَقْبَلِهِ، وَ مُبايِنٌ بَيْنً مَحارِمِهِ مِنْ كَبيرٍ اءوْعَدَ عَلَيْهِ نيرانَهُ، اءَوْ صَغِيرٍ اءرْصَدَ لَهُ غُفْرانَهُ. وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِى اءَدْناهُ مُوَسَّع فِى اءَقْصاهُ.

شاركوا هذا البرامج مع أصدقائكم