هل أكد القرآن الكريم على العيش المشترك؟

الثلاثاء 19 ديسمبر 2017 - 13:41 بتوقيت مكة
هل أكد القرآن الكريم على العيش المشترك؟

ليست اشكالية العيش المشترك بالأمر الجديد على قائمة أولويات الفكر الانساني، فهي لخطورتها كانت وما زالت مورداً لكثير من الجهود التي أثمرت معالجات شتّى، بغض النظر عن النتائج التي أفضت اليها أكانت تخدم قيام تعايش سوي بين مختلف المجموعات البشرية، أم كانت تؤسس لتعايش ملتبس بين تلك المجموعات، مما يؤدي الى أخذها الى أنماط غير سوية من العلاقة.

الشيخ الدكتور محمد شقير

ليست اشكالية العيش المشترك بالأمر الجديد على قائمة أولويات الفكر الانساني، فهي لخطورتها كانت وما زالت مورداً لكثير من الجهود التي أثمرت معالجات شتّى، بغض النظر عن النتائج التي أفضت اليها أكانت تخدم قيام تعايش سوي بين مختلف المجموعات البشرية، أم كانت تؤسس لتعايش ملتبس بين تلك المجموعات، مما يؤدي الى أخذها الى أنماط غير سوية من العلاقة.

 هذا ولم يكن النص الديني والقرآني تحديداً بعيداً عن مراودة تلك الاشكالية، حيث عنت العديد من الآيات القرآنية بجملة من المبادئ والمفاهيم، التي تؤسس مجتمعة لثقافة فريدة من التعايش المشترك بين الجماعات المختلفة عرقياً أو مذهبياً أو طائفياً أو سوى ذلك. صحيح أن النص القرآني كان عرضة لقراءات مختلفة نحى بعضها نحو نتائج هدامة أو مضرة بالعيش المشترك وثقافته وقيمه، لكن في المقابل توجد قراءات أخرى تذهب نتائجها الى تأصيل العيش المشترك وتعزيزه، وبناء التعايش المختلف على قيم ومبادئ ذات بعد انساني وتواصلي يختزن قيم الخير والتعاون بين بني الانسان.

وسوف نحاول في هذا البحث تلمس منظومة المبادئ والمفاهيم المؤسسة لثقافة العيش المشترك بحسب الرؤية القرآنية، بالاضافة الى مجمل القضايا ذات الصلة التي يمكن أن تترتب على تلك المنظومة، أو ينبغي أخذها بعين الاعتبار في مقاربتنا لثقافة العيش المشترك وأهمية تكريسها.

إن أهم المبادئ أو المفاهيم التي يمكن تلمسها في القرآن الكريم هي ما يلي:

1-التنوع واستباق الخيرات: يقول الله تعالى في كتابه الكريم: "لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات..." (البقرة، 148) والمعنى إن كلاً من المجموعات الدينية لديه وجهته التي يعتمدها في قناعاته وشريعته وسوى ذلك -وليس الأمر مقتصراً على القِبلة التي يُولّى اليها - فليس من الصحيح الاستغراق في الجدل والنقاش في هذه الوجهة أو تلك، بل الصحيح هو توجيه الاهتمام الى قيم الخير والتسابق الفعلي في مدارج الخيرات والعمل بها.

 ان الاكثار من الجدل في مساحات الاختلاف، وتجاوز الأصول والضوابط في ممارسة ذلك الجدل، سوف يؤدي الى نتائج مخالفة لما يريده الدين من الجدل وأهدافه، ولذلك يقول لنا القرآن الكريم ان دعوا ذلك الجدل، وتوجهوا الى ذلك الميدان العملي المتفق عليه بينكم، ذي الجدوى العملية لكم، من تلك القيم التي تجتمعون عليها، فليكن اهتمامكم بها، وتنافسكم فيها، فتسابقوا في ميدان تلك الخيرات والعمل بها، وليكن المعيار لديكم من يقوم بفعل الخير أكثر، ومن ينفع عيال الله تعالى أكثر، ومن يبادر الى مجمل أعمال الخير أفضل من الآخرين. هذا ما يريده الدين، وهذا ما يلفت اليه القرآن الكريم، وهذا ما يجب أن يكون عليه اهتمام المجموعات الدينية، ان أرادت أن تأتمر بما يريده الله تعالى.[الطبرسي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج1، ص 296]

 

 ان الاستغراق في الجدل الديني، فهو فضلاً عن كونه يؤدي الى تأزيم العلاقة بين المجموعات الدينية والاضرار بها، فانه سوف يؤدي الى صرف اهتمام تلك المجموعات عن مجال غاية في الأهمية في المفهوم الديني، ألا وهو الاستباق الى الخيرات والتسابق في ميدان الخير، فكأن القرآن الكريم يقول لنا: دعوا ما يضركم الى ما ينفعكم، وليكن انشغالكم بما يعود عليكم بالنفع، لا بما يجر اليكم الضرر.

2- التعارف الهدف من التنوع: حيث جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات، 13). تذكر الآية الهدف من التنوع الموجود في المجتمعات الانسانية التي تنقسم الى الأفضلية والكرامة الانسانية. فالأفضلية الحقيقية هي الأفضلية عند الله تعالى، وهي مبنية على تقوى الله تعالى، أي على مخافته في عباده وعياله، وذلك ببذل الجهد لايصال الخير والنفع اليهم، والامتناع عن فعل الشر وتسبيب الضرر لهم.

تؤكد الآية الكريم على التعارف بين المجموعات الانسانية كهدف أساس ينبغي السعي اليه؛ والتعارف في قبال التجاهل الذي يعني (أي التجاهل) عدم معرفة ما عليه الآخر من فضائل ومكارم ينبغي احترامها، ومن انجازات يحسن الاستفادة منها، ومن حاجات ينبغي أن تكون سبباً لتبادل النفع بين تلك المجموعات... وهو (أي التجاهل) ما يؤدي الى الاستعلاء، والانتقاص من الآخر، والانغلاق على الذات، والتأسيس لأنماط من العلاقة غير سوية بين تلك المجموعات المحكومة بالتنوع والاختلاف.[ الطباطبائي محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن ج18، ص 325-328].

إن الانطواء على الذات -كمنهج اجتماعي ثقافي اعلامي سياسي..- يؤسس لعلاقات غير بناءة مع الآخر، كما يحرم تلك الذات من امكانيات كبيرة للاستفادة من علاقات سوية يمكن أن تنسج مع الآخر، فضلاً عن ان انعزال المجموعات الانسانية عن بعضها، يوفر بيئة خصبة لنمو المخاوف والهواجس، التي سوف تعطل أو تعيق الكثير من الجهود والمحاولات، التي يمكن أن تبذل لقيام علاقات بناءة بين تلك المجموعات. كما انها يمكن أن تدفع باتجاه خلق أزمات وصدامات فيما بينها، كل ذلك هو نتيجة عدم تمكين التعارف واعتماده كمنهج في العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، في حين إن تسييل هذا التعارف في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، سوف يخدم وبفعالية أهداف الاجتماع الانساني لتلك المجموعات الانسانية، وخصوصاً عندما يكون اجتماعها ذلك مبنياً على أساس أن الكرامة الانسانية عند الله تعالى محكومة لعامل التقوى في مختلف تلك العلاقات الانسانية.

3- عولمة القيم: أي ان الأصول والقيم الاخلاقية (الانسانية)  ليست ذات حدٍّ طائفي أو مذهبي أو غيره، يقول الله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين"(الممتحنة، 8). حيث تسن هذه الآية القرآنية قاعدة أساسية في التعامل مع الآخر، وتفصل بين صنفين: الأول الذين لم يبادروا الى القتال والاعتداء والابعاد عن الديار، والثاني من بادر الى ما ذكر؛ فتذهب الآية القرآنية الى ان الله تعالى لا يمنع المسلمين من أن يتعاملوا مع من لم يبادر الى قتالهم والاعتداء عليهم على أساس من القسط (العدل) والبر (مجمل أفعال الخير)، بل ان الله تعالى يحضهم على ذلك (ان الله يحب المقسطين). حيث من الواضح إن الآية القرآنية تريد ان تبين ان القيم الأخلاقية والمعاملات الاخلاقية (البر، القسط، الخير...) ليست محصورة في الاطار الاسلامي الضيق، بل هي قيم ذات بعد انساني عام، وان الاختلاف الديني وغيره ينبغي ألا يكون مانعاً من اعتماد القيم الاخلاقية من البر والقسط في المعاملات الانسانية والعلاقات الاجتماعية بين مختلف المجموعات البشرية، بل إن المطلوب قرآنياً هو الأخذ بتلك القيم الاخلاقية - الانسانية، وجعلها أساساً في مجمل العلاقات الانسانية بين بني البشر.[ انظر في هذا الموضوع: شريعتي روح الله، فقه التعايش، 2009م، صص 66-74].

كما يمكن أن يستفاد من الآية أمر آخر لا يقل أهمية عما تقدم، وهو ان فعل القتال والحرب ليس مرتبطاً بالاختلاف وانما بالاعتداء، فليس من الصحيح اتخاذ أي نوع من أنواع الاختلاف الديني أو غيره سبباً للحرب والقتال، انما الذي يبرر ذلك هو الاعتداء وممارسة العدوان.

إن إعطاء بعد انساني عولمي للقيم، يسهم الى حدٍ بعيد في بناء علاقات انسانية بناءة ومجدية وقادرة على تجاوز الخلافات الدينية وغيرها، وعلى بناء أنماط تواصلية وتفاعلية، وايجاد أكثر من بيئة مناسبة للتواصل والتلاقي والعمل المشترك لخير الانسان ونفعه.

4-حسم الاختلاف والنهي عن فعل التفرقة: بمعنى ان القرآن ينهى عن التفرقة، ويطلب ادارة الاختلاف بطريقة لا تؤدي به الى خلاف أهدافه. لذلك كان فصل الاختلاف أمراً مؤجلاً الى يوم القيامة، يقول الله تعالى: "ان ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" (السجدة، 25). فالله تعالى هو الذي يفصل في موارد الاختلاف، في اشارة الى عدم تأجيج الاختلافات، وتحديداً ذات البعد الديني، بل من المطلوب العمل على ارجائها الى يوم القيامة، حيث سيقضي الله تعالى آنذاك في جميع ما اختلفت فيه الجماعات الدينية "ان ربك يقضي بينهم يوم القيامة في ما كانوا فيه يختلفون" (الجاثية، 17).

ان الهدف من التأكيد على ان الله تعالى هو من يحسم الاختلاف، وان يوم القيامة هو الموعد الذي يتم فيه ذلك؛ هو ان تنزل الجماعات الدينية عن كاهلها مسؤولية حسم الاختلاف، وان لا تتخذ منه منصة لممارسة العنف والعدوان وأي تعامل غير سوي في العلاقة مع الآخر، وان تركن الى الحكمة والتروي في ادارة الاختلافات الدينية، حيث إن الله تعالى لم يعطها الحق في الحكم في الاختلاف، وخصوصاً بالطرق غير المشروعة، وانها ان كانت تريد حسم القول في الاختلافات القائمة، فما عليها الا أن تنتظر ذلك اليوم (يوم القيامة)، حيث يقضي الله تعالى بين الافراد كما بين الجماعات؛ فاذا كان لا بد من يوم يتبين فيه كل الاختلاف، واذا كان الله تعالى قد اختار أن يكون ذلك اليوم هو يوم القيامة؛ فما على هذه الجماعات الدينية الا أن تتعايش فيما بينها بما أمره الله تعالى، من البر والتقوى والقسط والعدل وسوى ذلك، وأن تؤجل اختلافاتها الى ذلك اليوم، فلا تحاول مصادرة هذا الدور الالهي، ولا أن تستقرب حسم الاختلاف قبل ذلك اليوم، ولا أن تأخذه الى حيث لم يرد الله تعالى، من التفرقة والتنازع وتجاوز تلك القيم، التي أمرنا الله تعالى بالتمسك بها والاعتماد عليها في التعايش الديني على اختلاف أنواعه.

5-النهي عن المعاملات غير السوية: إن جملة من القواعد يجب أن تحكم العلاقة مع الآخر الديني، والتي منها الامتناع عن أي نوع من أنواع المعاملة التي تصنف في دائرة الظلم أو العدوان على الآخر، وهذه القواعد هي قواعد مطلقة ليست محصورة في اطار الاجتماع الديني الخاص، بل هي قواعد تشمل تعقيد العلاقة مع مختلف المجموعات الانسانية، وخصوصاً المجموعات الدينية، سواءً تلك التي تختلف فيما بينها طائفياً او مذهبياً أو غير ذلك. يقول الله تعالى في كتابه الكريم : "ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين" (البقرة، 190). فهو تعالى لا يحب المعتدين بغض النظر عمن يقع عليه الاعتداء، فأي عمل يصنف في دائرة الاعتداء هو عمل غير مشروع بحسب المفهوم القرآني.

كما ينهى الله تعالى عن الظلم: فقد جاء في القرآن الكريم: "...والله لا يحب الظالمين"(آل عمران، 57)، فلن يكون مقبولاً بحسب المفهوم القرآني ممارسة أي نوع من أنواع العلاقة مع الآخر تنطوي على شيئ من الظلم في أي مجال من المجالات، ولا يمكن لأية علاقة تنطوي على شيئ من الظلم أن تحمل تبريرها الديني، بل هي تتنافى مع القواعد الأساسية التي يلزم القرآن الكريم إتباعه بها ويدعوهم اليها.

إن هذه المفاهيم والقواعد (عدم الاعتداء أو الظلم) هي مفاهيم وقواعد ذات أبعاد اجتماعية مختلفة، ولا يصح تقديم أية مقاربة ترمي الى تجويف هذه المفاهيم من قيمتها الفعلية، أو تؤدي بها الى تعطيل قدرتها على تقديم مفاعيل ذات بعد عملي، تسهم فيما لو حصلت في نظم العلاقات الاجتماعية والانسانية على أساس من عدم الظلم والعدوان، بما يؤسس لقيام علاقات سوية وسلمية وتواصلية بين مختلف المجموعات الانسانية والدينية، وبغض النظر عن طبيعة الاختلافات القائمة بينها.

6-المشترك والبناء عليه (كلمة سواء): يقول الله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله"(آل عمران، 64).

ان الذي يحصل بين المجموعات الدينية المختلفة فيما بينها دينياً هو التركيز فقط على مساحة الاختلاف بينها، بما يؤدي الى تضخيم هذه المساحة، وهو ما يؤدي أيضاً الى التعتيم على أية مساحة اشتراك بينها، مهما كانت هذه المساحة كبيرة وكان بالامكان البناء عليها بقوة وفعالية. إن تقزيم مساحات الاشتراك بين الجماعات الدينية أو التغافل عنها، سوف يؤدي الى حرمان هذه الجماعات من الالتفات الى أهمية تلك المساحات وضرورة البناء عليها في تعزيز علاقات التعاون والتواصل البناء بينها، والعمل على أساس من تلك القيم الانسانية والدينية العابرة للطوائف والمذاهب والجماعات الدينية المختلفة.

إن بناء ثقافة اختلاف واعية تعلي من شأن المشترك وتبني عليه، وتضبط المختلَف وتجعله محكوماً لفعل الحكمة والعقل؛ سوف يسمح بقيام علاقات بناءة وصحية، تتحول فيها مادة الاشتراك الى سبب تواصل، ومادة الاختلاف الى سبب تعارف، حيث ان المختلِف يساعد والحال هذا على معرفة الذات، ولا يتحول فيها الاختلاف الى عامل تنازع وتفرقة، بل يعمل على حسن ادارته من خلال فعل العقل والحكمة والقيم الدينية الأصيلة الحاكمة على هكذا نوع من أنواع العلاقة بين المجموعات الدينية. أما اذا لم تعِ الجماعات الدينية معادلة المشترَك والمختلَف، وكان وجود أدنى اختلاف يعد في نظرها سبباً كافياً لقيام علاقات تصادمية وعنفية تعتمد منطق الغلبة، فان هذا الأمر سوف يلغي امكانية قيام أية علاقة بناءة وسوية، ليس فقط خارج دائرة هذه الجماعات بل أيضاً فيما بينها، وحتى داخل كل جماعة على حدة، وهو ما يؤدي الى نسف أية امكانية لقيام مجتمعات مستقرة، أو عقد اجتماعي سوي بين مختلف مكونات المجتمع.

7- مطلوبية نسج علاقات بناءة (التعاون): رغم أنه توجد في القرآن الكريم قيم تواصلية انسانية عابرة للطوائف والمذاهب وكانت مورداً للتحسين والمدح (يحب المقسطين)...؛ فان القرآن الكريم لم يكتفِ بذلك، بل نجد بعض الآيات توجه أمراً مباشراً بمطلوبية قيام ونسج علاقات تقوم على أسس التعاون على البر والتقوى وعمل الخير لنفع الانسان ورفاهه. يقول الله تعالى في كتابه الكريم "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان" (المائدة، 2). إن هذه الآية القرآنية صريحة في مطلوبية أن تسعى الجماعات الدينية فيما بينها -وبعيداً عن أي اختلاف- الى قيام علاقات تعاون تقوم على أساس من البر والتقوى، حيث ان التعاون على التقوى يعني التعاون على ارساء قيم التقوى، التي تؤدي الى الامتناع عن كل ما حرمه الله تعالى، والاقدام على كل ما أمر به الله تعالى، وخصوصاً فيما يرتبط بتلك العصبيات الدينية أو المذهبية، التي قد يُحاول الباسها جلباب الدين وممارستها باسم الله تعالى، وهما منها براء. كما ان البر يعني مجمل أعمال الخير، سواءً كانت فعلاً قلبياً كالايمان والنية الطاهرة، أو كانت فعلاً جوارحياً كعبادة الله تعالى والانفاق في سبيل الله تعالى وما سوى ذلك، يقول الله تعالى: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم اذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس" (البقرة، 177). حيث يظهر لنا من الآية الكريمة سعة أعمال البر وانه بالامكان أن يقوم تعاون على مجمل هذه العناوين التي ذكرتها الآية بين مختلف الجماعات الدينية من أجل خير الانسان وسعادته.

 

8-الأهداف المدنية وشموليتها: بمعنى انه يوجد في القرآن الكريم أهداف ذات بعد مدني اجتماعي شامل لمختلف مجالات الحياة الاجتماعية، يمكن أن تكون قواسم مشتركة بين مختلف الجماعات الدينية في برامجها وأهدافها ومشاريعها، من قبيل السعي الى الاصلاح في مختلف الميادين والمجالات، ومواجهة الفساد بكل تعبيراته من سياسية وادارية ومالية واجتماعية وسوى ذلك. يقول الله تعالى في كتابه الكريم "لا تفسدوا في الأرض بعد اصلاحها" (الأعراف، 85) كما يقول تعالى في آية أخرى "والله لا يحب المفسدين" (المائدة، 64). ويحض الله تعالى على الاصلاح: فقد قال تعالى حكاية عن نبي الله شعيب(ع) "ان أريد الا الاصلاح ما استطعت" (هود 88)، حيث كان الاصلاح الهدف الأساس الذي كان يسعى اليه شعيب(ع) في قومه، كما يقول تعالى "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" (هود، 117) في تأكيد على أهمية الاصلاح ونتائجه.[ أنظر: شقير محمد، الاصلاح الديني هل كان هدفاً للحسين(ع)].  وعليه، يمكن للجماعات الدينية المختلفة دينياً أن يكون لها أهداف مدنية مشتركة، من فعل الاصلاح ومواجهة الفساد وغير ذلك من الاهداف، بحيث يبنى على هذه الأهداف مشاريع مشتركة وبرامج مشتركة، تسهم الى حد بعيد في ارساء قيم التعاون على البر، والمشاركة في الخير، مما يؤدي الى تعزيز ثقافة العيش المشترك والتواصل البناء بين مختلف الجماعات الدينية، بدل أن يكون لكل جماعة مشروعها الخاص فيما يرتبط بالجانب المدني والمجتمعي، مما يؤدي الى انعزال تلك المجموعات عن بعضها البعض، وهو ما يترتب عليه الكثير من النتائج السلبية التي أشرنا الى بعضها آنفاً.

9-النجاة الأخروية بين التوسعة والتضييق: وهو من أهم الإشكاليات التي تنعكس على العيش المشترك، باعتبار أن تضييق دائرة النجاة الأخروية -و الخلاص الأخروي-ربما يوهم البعض بأن نتيجته أن تكون العلاقة مع الآخر علاقة الغائية وتصادمية.فيما يرتبط بالخلاص الأخروي وحدوده، يمكن الاستعانة بقوله تعالى في القرآن الكريم: "ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة، 62). حيث أنه من الواضح أن القرآن الكريم لم يحصر الخلاص الأخروي بجماعة دينية محددة، وانما وسع هذه الدائرة لتشمل بالاضافة الى الذين آمنوا بالاسلام الذين هادوا والنصارى والصابئين، فلم تقتصر النجاة الأخروية على الذين آمنوا بالاسلام، أو على الجماعة المؤمنة بالمعنى الخاص. وهو ما يتطلب منا الحذر من مقاربة مجمل المفاهيم الدينية والقرآنية خاصة، بناءً على اعتبارات سوسيولوجية، تتضمن أنماطاً اجتماعية غير صحيحة، أو ثقافة مجتمعية مشوهة، كأن يعمد الى مقاربة مفهوم الخلاص الأخروي من خلال التشكيلات الدينية القائمة، التي ترتبط بالقبلية الدينية، وتصبح فيها الطوائف والمذاهب أقرب الى القبائل ذات البعد الطائفي والمذهبي، من كونها ارتباطاً بالله تعالى وايماناً به وتسليماً له.

فليس من الصحيح القول إن هذا الخلاص محصور في الطائفة الفلانية والمذهب الفلاني بالمعنى القبلي، وانما يرتبط الأمر بشروط الخلاص (آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً) بمعزل عن التوصيف المجتمعي الذي يعمل على التصنيف في هذه الجماعة الدينية أو تلك. وهو ما يتطلب منا اعادة النظر، بل ربما إعادة تشكيل مجمل المفاهيم الدينية ذات البعد الاجتماعي، كمفاهيم الاسلام والايمان والكفر وغيرها، لكن هذه المرة على أسس دينية خالصة وأصيلة، تعيد هذه المفاهيم الى أصولها ومعانيها كما جاءت في القرآن الكريم، والنص الديني بشكل عام.[ المقصود بالنص الديني هنا القرآن الكريم وسنة الرسول(ص) واهل بيته(ع)، حيث جاء عن رسول الله(ص): "...أنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور..وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي" (مسند احمد بن حنبل: 7/75/19285:صحيح مسلم: 4/1873/2408، عن:الريشهري محمد، اهل البيت في الكتاب والسنة، ط1، قم، مؤسسة دار الحديث الثقافية، ص115)].

10-الآخر ومنطق التوصيف: بمعنى ان القرآن الكريم عندما يتحدث عن الآخر الديني مثلاً، فانه يطلق توصيفاً ذا بعد ايماني، يتضمن معنى الوصل والتواصل والوحدة، فهو يتحدث عن الذين آمنوا بنبي الله موسى (ع) أو نبي الله عيسى (ع)، ويصفهم بكونهم "أهل الكتاب" يقول الله تعالى "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل" (مائدة، 19)، وفي هذا دلالة على ذلك البعد الايماني الذي يجمعهم مع كل من يؤمن بكتاب من عند الله تعالى، فهم جميعاً يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين والكتاب، وما يعنيه ذلك من مرجعية الوحي (الكتاب) في كل ما يتصل بشؤون حياتهم، في قبال المرجعيات الوضعية، وهو ما يشكل قاعدة ايمانية-كتابية (الوحي) أساسية وعريضة، يمكن أن تسهم الى حد بعيد في التقريب بين الجماعات الدينية المختلفة (باعتبار ان الاله واحد والكتاب مصدره واحد والاعتقاد باليوم الآخر واحد..) وفي التأسيس لمنطق في العلاقة والتعاون، يقوم على مفهوم الوحدة الايمانية. وهذا في قبال توصيفات أخرى من قبيل أكثرية وأقلية، عادة ما تكتسي في مجتمعاتنا لوناً مذهبياً أو طائفياً غالباً، باعتبار انها تتلون في كل مجتمع بحسب طبيعة الانقسامات والتحزبات القائمة في ذلك المجتمع. ومن الواضح أن القرآن الكريم لم يعطِ مشروعية للأكثرية بما هي أكثرية، ولم يسلب مشروعية عن الأقلية بما هي أقلية، لأن ثنائية الأقلية والأكثرية هي ثنائية ذات اعتبار كمي عددي، وهذا الاعتبار ليست له أية قيمة في المفهوم القرآني.

وعليه يمكن القول إن الوحدة الايمانية التي يشي فيها التوصيف القرآني في التعامل مع الآخر الديني، تسهم في تعزيز ثقافة العيش المشترك وقيمه و تمتين روحية التعاون البناء، بعيداً عن منطق الغلبة والاثرة.

إضافة مكملة: يمكن ان يقع البحث في آيات اخرى من القرآن الكريم، قد يستفاد منها أكثر من دلالة تخدم مقولة العيش المشترك، كقوله تعالى: "لا اكراه في الدين" (البقرة، 256)، حيث قد يقال ان الآية الكريمة تشير الى عدم امكانية حصول اكراه في الاعتقاد تكويناً، لانه أمر قلبي، وهو لا يمكن ان يخضع لفعل الاكراه الذي يرتبط بالجانب المادي؛ وفي ذلك كناية عن النهي عن فعل الاكراه تشريعاً، بمعنى ان القرآن الكريم ينهى بهذا البيان اتباعه عن ممارسة الاكراه على الآخرين فيما يرتبط بالاعتقاد الديني.

كما يمكن ان يشار الى ان القرآن الكريم لم يات ِعلى ذكر الدين بصيغة الجمع، وانما كان يذكره دائماً بصيغة المفرد "فأقم وجهك للين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (الروم، 30)، (نعم كان يأتي على وصفه بـ: دين الحق، في قبال دين الباطل)؛ ولعل في هذا دلالة على واحدية الدين، وأن الذي أتى من عند الله تعالى ليس ادياناً مختلفة وانما هو دين واحد، قد تختلف بعض تعبيراته بين زمن وآخر "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" (المائدة، 148)، لكن هذا لا يضر بكون الدين واحد، وحقيقته واحدة، وانه من عند اله واحد، هو الله تعالى.

ان هذه الآيات وغيرها تظهر ليس فقط اهمية العيش المشترك في القرآن الكريم، وانما ايضاً اصالته القرآنية، وتبرز مدى ضرورة ان يتماهى الاتباع الدينيون، وخصوصاً المسلمون منهم، مع هذه المقولات القرآنية ذات العلاقة بالعيش المشترك وثقافته، وانهم ان ارادوا ان يستجيبوا لنداء القرآن الكريم، فما عليهم الا الابتعاد عن أي نداء آخر فتنوي أو تفريقي او تنازعي، يخالف ما جاء به القرآن الكريم، ونطق به الله تعالى في محكم كتابه.

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 19 ديسمبر 2017 - 13:40 بتوقيت مكة