بين الصلح الحسني والثورة الحسينية (القسم الأخير)

الأحد 19 نوفمبر 2017 - 11:17 بتوقيت مكة
بين الصلح الحسني والثورة الحسينية (القسم الأخير)

مقالات ـ الكوثر: إنّ الأمّة الإسلاميّة في عهد الإمام الحسن (ع) كانت تعيش حالة نفسيّة سيّئة للغاية، وظروفاً اجتماعيّة قاسية.

مقارنة بين ظروف الإمامين (ع)[13]:

ويمكننا أن نقرّب المعنى من خلال المقارنة بين ظروف الإمامين الحسنين (ع)، فنقول:

أوّلاً: إنّ الأمّة الإسلاميّة في عهد الإمام الحسن (ع) كانت تعيش حالة نفسيّة سيّئة للغاية، وظروفاً اجتماعيّة قاسية، فقد عاشت خمسة أعوام من عمرها - وهي مدّة حكم أمير المؤمنين (ع) - في حروب وحروب، حيث أُشْغِل أمير المؤمنين (ع) بالحروب، فهي لا تضع سيوفها من حرب إلاّ لتشهرها في حربٍ أخرى، وكانوا لا يحاربون الجماعات الغريبة عن الإسلام وإنّما يحاربون عشائرهم وإخوانهم بالأمس، ومَن عرفهم وعرفوه ممّا ولّد لديهم حنيناً إلى السلم والراحة خصوصاً مع الشعارات التي كان يطرحها معاوية وحملات الدعاية التي أطلقها أعوانه ويمنّون النّاس فيها بالرخاء والأعطيات الضخمة والدعة والراحة والسكينة، فكان وضعهم النفسي والاجتماعي لا يسمح لهم بخوض حرب جديدة، ولهذا نجد الإمام الحسين (ع) - صاحب الثورة الجبّارة على يزيد - لم ينهض بالثورة على معاوية - لأنّه كأخيه المجتبى (ع) - وجد أنّ الوضع النفسي والاجتماعي للأمّة لم يكن يسمح بخوض حرب جديدة، فآثر الصبر ما يقرب من عشر سنين، أعني من صلح المجتبى (ع) مع معاوية إلى هلاك معاوية، عشر سنين ارتاحت فيها الأمّة من الحروب والقتال، ولاشكّ أنّ الحالة النفسيّة والوضع الاجتماعي للأمّة كانا مختلفين تماماً، فالحروب المتواصلة تضعف الإنسان وعزيمته بينما الحروب المتقطّعة تقوّي عزيمة الإنسان، والأولى كانت في عهد الإمام المجتبى (ع) والثانية كانت في عهد الإمام الشهيد (ع)، ولا يخفى أنّ صلح الحسن (ع) هو الذي أوجد هذه الراحة لتتوفّر للحسين (ع) فرصة الثورة على يزيد.

ثانياً: عندما أقبل الإمام الحسن (ع) إلى هذه الأمّة لم تكن الأمّة بعد قد جرّبت الحكم الأموي على يد معاوية فلم تعش حكمه الجائر لتتعرّف عن قرب على حقيقته القائمة على الاضطهاد والحرمان والمطاردة المستمرّة وخنق الحرّيات وقتل أنصار علي (ع) ومحبّيه وشيعته بالتهمة والظنّة، ولم تتعرّف على زيف شعارات معاوية وحملات أعوانه الدعائيّة، فكانوا يثقون بمعاوية ويطلقون عليه ألقاباً بقي بعضها إلى اليوم من قبيل (كاتب الوحي) و (خال المؤمنين) وما شاكل ذلك، بينما قام الإمام الحسين (ع) بالثورة بعد أن جرّبت الأمّة حكم معاويّة وعاشت بطشه وقسوته وعرفت ظلمه وحقيقته ممّا ولّد عندها الإحساس بالذنب في ترك الجهاد ضدّه، وهذا ما نلمسه من الكتب التي وردتْ على الإمام الحسين (ع) - بعد استشهاد أخيه الحسن (ع) - تدعوه إلى الثورة على معاوية وأنّها نادمة على ترك الجهاد ضدّه وتستغفر الله من ذنبها ذاك، ولاشكّ أنّ الحالة تختلف بين مَن لديه رغبة في ترك الجهاد ومَن لديه رغبة في الجهاد نفسه بل ولديه إحساس بالذنب لتركه الجهاد، والحالة الأولى كانت في عهد الإمام المجتبى (ع) والثانية كانت في عهد الإمام الشهيد (ع)، ولا يخفى أنّ صلح الحسن (ع) هو الذي أوجد هذه التجربة لتتوفّر للحسين (ع) فرصة الثورة على يزيد.

ثالثاً: الإمام الحسن (ع) ابتلى بشخصيّة معاويّة الداهية الذي قال فيه علي (ع): "والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر"[14]، فهو داهية في الشّر، فمع أنّه غادر في السلم وفاجر في الحرب وليست هناك حدود لغدره وفجوره إلاّ أنّه استطاع أن يضفي على نفسه أمام العامّة مسحة دينيّة؛ ليموّه على النّاس أعماله وأفعاله ما دام يحكمهم باسم الدين، فهو لا يرتكب من الأعمال أمامهم ما يرونه تحدّياً للدين، وإنّما عليه أن يظهر بسلوك المحافظ على الدين وتعاليمه وما لا سبيل إليه إلاّ ارتكابه كان يفعله سرّاً، وهذا السلوك المحافظ قد أظهره عند العامّة بمظهر ديني فغدوا - وإلى الآن - يترضّون عليه، ويطلقون عليه الألقاب المشرّفة، بل غدوا يبرّرون له أفعاله وتصرّفاته تارة بأنّه (مجتهد وقد أخطأ فله أجر)، وأخرى بأنّه (رجل سياسة، ويجوز للسياسي ما لا يجوز لغيره!) وغير ذلك من التبريرات الواهية، بينما ابتلى الإمام الحسين (ع) بشخصيّة يزيد الضعيفة الهزيلة، الذي لا يفقه من الإسلام إلاّ اسمه ولا من العقل إلاّ وهمه، فلم يكن ليحتاج والحال هذه إلى غطاء شرعي أو مسحة دينيّة كأبيه ففسد وأفسد، وأسرف في المعاصي، وفرق كبير بين معاوية ودهائه ويزيد وغبائه، والأوّل كان في عهد الإمام الحسن المجتبى (ع) والثاني كان في عهد الحسين الشهيد (ع).

فهذه بعض الظروف التي دعت الإمام الحسن (ع) إلى مصالحة معاوية وهي لا تتناسب مع ظروف الإمام الحسين (ع) ليصالح يزيد بن معاوية، وهذه بعض الظروف التي دعت الإمام الحسين (ع) إلى الثورة على يزيد وهي لا تتناسب مع ظروف الإمام المجتبى (ع) ليثور على معاوية، فظروفهما (ع) إن لم تصل إلى حدّ التناقض فلا أقل من أنّها وصلت إلى حدّ التضاد، وعليه فإنّ الحكمة في عهد الإمام الحسن (ع) كانت تقتضي الصلح، وأنّها في عهد الإمام الحسين (ع) كانت تقتضي الثورة، وكلّ منهما (ع) عمل بما تقتضيه الحكمة في زمانه، وبالتالي لو كان الحسن (ع) مكان الحسين (ع) لفعل فعله، ولو كان الحسين (ع) مكان الحسن (ع) لفعل فعله.

مثال من الواقع يقرّب الفكرة:

ويمكن أن نوضح حال الإمامين (ع) في الصلح والثورة بهذا المثال:

تصوّر أنّ هناك مريضاً مصاباً في قلبه، هذا المريض راجع طبيباً متخصّصاً في أمراض القلب، فشخّص الطبيب حالته وقال لابدّ له - من أجل أن يتشافى ويتعافى - من عمليّة جراحيّة، وقد نوى الطبيب القيام بالعمليّة الجراحيّة إلاّ أنّه وجد أنّ هذا المريض لا يتحمّل العمليّة لارتفاع أو انخفاض في نبض قلبه أو ضغط دمه أو سكّره أو ما شاكل ذلك، فبدأ بمعالجته بالأدوية والعقاقير التي تعيد الأمور إلى نصابها، فيرجع نبض القلب إلى نصابه، وضغط الدم إلى نصابه، والسكّر إلى نصابه... وهكذا، على أمل أن تتهيّأ له الأمور ويجري العمليّة للمريض، ولكنّ الموت عاجل الطبيب فمات، فجيء للمريض بطبيب متخصّص ثانٍ ليباشر علاجه، هذا الطبيب الثاني ملزوم أن يبدأ علاج المريض من النقطة التي انتهى عندها الطبيب الأوّل الذي مات، فيواصل علاج المريض بالأدوية والعقاقير إلى أن يتهيّأ للعمليّة الجراحيّة، فإن تهيّأ أجرى له العمليّة وإن لم يتهيّأ يصبر عليه، فإذا مات الطبيب الثاني يؤتى للمريض بطبيب متخصّص ثالث، وهذا الطبيب يفعل كما فعل الطبيب الثاني، وهكذا إذا مات الطبيب الثالث يؤتى للمريض بطبيب رابع... إلى أن يتهيّأ جسمه للعمليّة ويقوم الطبيب المختصّ المشرف على علاجه بالعمليّة الجراحيّة.

وعليه لو فرضنا أنّ الأدلّة التي قامت عندنا تثبت أنّ الأطباء الذين أشرفوا على علاج المريض كلهم في مستوى واحد من العلم والكفاءة، فهل يكون الطبيب الذي أجرى العمليّة أفضل من الأطباء الذين هم مثله في العلم والكفاءة ولكن عاجلهم الموت وما أمهلهم إلى أن يتهيّأ المريض للعمليّة فيجروها له؟

والجواب واضح، لا فضل للطبيب الذي أجرى العمليّة على الأطباء الذين سبقوه؛ لأنّ الموت لو أمهلهم إلى أن يتهيّأ المريض للعمليّة لأجروها له ولكنّ الموت ما أمهلهم، وهذا هو حال الإمام الحسين (ع) مع أخيه الإمام الحسن (ع)، فالإمام الحسن (ع) حينما وَلِي هذه الأمّة شخّص حالتها فوجدها مريضة، مصابة في قلبها، لا تفرّق بين الحقّ المتمثّل في آل نبيها والباطل المتمثّل في أعدائهم من بني أميّة، لم تفرّق بين عليّ (ع) الذي هو (الإيمان كلّه) بشهادة النبي (ص) يوم الخندق، عليّ.. الذي لا يفارق القرآن ولا القرآن يفارقه، عليّ.. الذي لا يفارق الحقّ ولا الحقّ يفارقه، لم تفرّق بينه (ع) وبين الطليق ابن الطليق معاوية بن أبي سفيان.

فلمّا شخّص الإمام (ع) حالتها، عرف أنّها لا تتشافى إلاّ بعمليّة جراحيّة وهي الثورة المسلّحة على نظام بني أميّة، ولكن وجد نبض الأمّة وضغط دمها وسكّرها في ارتفاع وهبوط فأراد أن يهيّأ جسمها للعمليّة، وحتى لا يشكل عليه أحد أو يقول فيه بخلاف الواقع أدخل المريض غرفة العمليّات ولكنّ جسد المريض اضطرب حتى ظهر ضعفه للقاصي والداني، وأنّه لا يتحمّل العمليّة في هذا الوقت، أعني أنّ الإمام (ع) أرسل جيوشه لقتال معاوية للقيام بالثورة التي هي العمليّة إلاّ أنّ الجيوش خانته وانقلبت عليه وهذا هو الضعف الذي ظهر في جسد الأمّة وبان أنّها لا تتحمّل الثورة في هذا الوقت لعدم ادراكها بحقيقة الأمور، فعالجها الإمام (ع) بالأدوية والعقاقير وهي الصلح وما ترتّب عليه من حكم معاوية وظلمه وجوره، حتى تتهيّأ الأمّة للعمليّة أي الثورة وذلك عندما تدرك خطأها في تقاعسها عن الثورة، وصبر الإمام المجتبى (ع) وهو يأمل أن يتهيّأ جسد الأمّة للعمليّة حتى يقوم بالعمليّة الجراحيّة بنفسه بمعنى أن تتهيّأ الأمّة للثورة حتى يقود الثورة، ولكنّ الموت عاجله فمات سلام الله عليه، فجاء الطبيب المختصّ الثاني وهو الإمام الحسين (ع)، ولما جاء إلى الأمّة المريضة لم يأخذها مباشرة إلى غرفة العمليّات وهي أرض كربلاء وإنّما صبر عليها عشر سنين إلى أن بدأ جسم الأمّة يتقبّل العمليّة، وعندما أصبح جسد الأمّة جاهزاً يقوى على العمليّة نهض الإمام بالثورة وأقام العمليّة في أرض كربلاء، ومنه نعرف أنّ الإمام الحسين (ع) لو كان محلّ الإمام الحسن (ع) لفعل فعله، ولو كان الإمام الحسن (ع) محلّ الحسين (ع) لفعل فعله، وبالتالي لا فضل للإمام الحسين (ع) على أخيه الإمام الحسن (ع)، فلو كان الإمام الحسن (ع) موجوداً إلى الوقت الذي تهيّأت فيه الأمّة للثورة لقاد الثورة بنفسه ولأجرى العمليّة بيديه المباركتين، ولكنّ الموت ما أمهله فجاء الحسين (ع) وأكمل ما بدأه الحسن (ع)، ولو فرضنا أنّ الموت ما أمهل الإمام الحسين (ع) للقيام بالثورة ومات قبل ذلك لجاء الإمام زين العابدين (ع) وأكمل المشوار ونهض بالثورة...

وهكذا، فهذه الثورة لابدّ منها ما دام قد حكم يزيد بن معاوية، يقول الإمام الحسين (ع): "وعلى الإسلام السّلام إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد"[15]، فلابدّ من هذه العمليّة الجراحيّة التي يتعافى من خلالها جسد الأمّة الإسلاميّة، وهذا ما كسبناه من ثورة الحسين (ع)، وما كانت ثورة الحسين (ع)لتنجح وتعطي ثمارها لولا صلح الإمام الحسن (ع) الذي هيّأ الأسباب للثورة، وصدق الشِّعار العزيز الذي يقول: "لولا صلح الحسن لما نجحت ثورة الحسين".. والحمد لله ربّ العالمين.

* الشيخ إدريس العكراوي

الهوامش:

[13] هذه الفقرة مستوحاة من كتاب: [ثورة الحسين (ع): ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة، لشمس الدين]، وقد اقتبست منه بتصرف كبير.

[14] شرح نهج البلاغة، للمعتزلي: م5، ج10، [193- ومن كلام له (ع) في شأن معاوية]، ص357.

[15] نفس المهموم، للقمّي: الباب الثاني: في ذكر ما جرى على الحسين (ع) بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية إلى شهادته (ع)، الفصل الثالث، ص66.

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأحد 19 نوفمبر 2017 - 10:50 بتوقيت مكة